كُنَّا زَمَانًا مُلُوكَ النَّاسِ قَبْلَكُمُ ... بِمَسْكَنٍ فِي حَرَامِ اللَّهِ مَسْكُونَا
قَالَ: فَانْطَلَقَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوَ الْيَمَنِ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ مَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَكَّةَ، وَمَا فَارَقُوا مِنْ إِمَّتِهَا وَمُلْكِهَا، فَحَزِنُوا عَلَى ذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا، فَبَكَوْا عَلَى مَكَّةَ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ الْأَشْعَارَ فِي مَكَّةَ، وَاحْتَازَتْ خُزَاعَةُ بِحِجَابَةِ الْكَعْبَةِ وَوِلَايَةِ أَمْرِ مَكَّةَ، وَفِيهِمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، لَا يُنَازِعُهُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَطْلُبُونَهُ، فَتَزَوَّجَ لُحَيٌّ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ - فُهَيْرَةَ بِنْتَ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيِّ مَلِكِ جُرْهُمٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرًا، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَبَلَغَ بِمَكَّةَ وَفِي الْعَرَبِ مِنَ الشَّرَفِ مَا لَمْ يَبْلُغْ عَرَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي حِطْمَةٍ حَطَمُوهَا عَشْرَةَ آلَافِ نَاقَةٍ، وَقَدْ كَانَ قَدْ أَعْوَرَ عِشْرِينَ فَحْلًا، وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَلَكَ أَلْفَ نَاقَةٍ فَقَأَ عَيْنَ فَحْلِ إِبِلِهِ، فَكَانَ قَدْ فَقَأَ عَيْنَ عِشْرِينَ فَحْلًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَطْعَمَ الْحَاجَّ بِمَكَّةَ سَدَايِفَ الْإِبِلِ وَلُحْمَانَهَا عَلَى الثَّرِيدِ، وَعَمَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ جَمِيعَ حَاجِّ الْعَرَبِ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ شَرَفُهُ فِي الْعَرَبِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَكَانَ قَوْلُهُ فِيهِمْ دِينًا مُتَّبَعًا لَا يُخَالَفُ، وَهُوَ الَّذِي بَحَرَ الْبَحَيْرَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَنَصَبَ الْأَنْصَابَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَجَاءَ بِهُبَلَ مِنْ هِيتَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَنَصَبَهُ فِي بَطْنِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ تَسْتَقْسِمُ عِنْدَهُ بِالْأَزْلَامِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أَمْرُهُ بِمَكَّةَ فِي الْعَرَبِ مُطَاعًا لَا يُعْصَى، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ مِنْ جُرْهُمٍ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ شَاعِرًا، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ حِينَ غَيَّرَ الْحَنِيفِيَّةَ:
[البحر الكامل]
يَا عَمْرُو لَا تَظْلِمْ بِمَكَّةَ ... إِنَّهَا بَلَدٌ حَرَامْ
سَائِلْ بِعَادٍ أَيْنَ هُمْ ... وَكَذَاكَ تَحْتَرِمُ الْأَنَامْ
وَبَنِي الْعَمَالِيقِ الَّذِينَ ... لَهُمْ بِهَا كَانَ السَّوَامْ
فَزَعَمُوا أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الْجُرْهُمِيَّ مِنْ مَكَّةَ، فَنَزَلَ بِأُطُمٍ مِنْ أَعْرَاضِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الشَّامِ، فَقَالَ الْجُرْهُمِيُّ، وَقَدْ تَشَوَّقَ إِلَى مَكَّةَ:
[البحر الطويل]
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... وَأَهْلِي مَعًا بِالْمَأْزِمَيْنِ حُلُولُ
وَهَلْ أَرَيَنَّ الْعِيسَ تَنْفُخُ فِي الْبَرَا ... لَهَا بِمِنًى وَالْمَأْزِمَيْنِ ذَمِيلُ
مَنَازِلُ كُنَّا أَهْلَهَا لَمْ تَحُلْ بِنَا ... زَمَانٌ بِهَا فِيمَا أَرَاهُ تَحُولُ
مَضَى أَوَّلُونَا رَاضِيِينَ بِشَأْنِهِمْ ... جَمِيعًا وَغَالَتْنِي بِمَكَّةَ غُولُ
قَالَ: فَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ يَلِي الْبَيْتَ وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ حَلِيلُ بْنُ حَبَشِيَّةَ بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، فَتَزَوَّجَ إِلَيْهِ قُصَيٌّ ابْنَتَهُ حُبَّى ابْنَةَ حَلِيلٍ، وَكَانُوا هُمْ حُجَّابَهُ، وَخُزَّانَهُ، وَالْقُوَّامُ بِهِ، وَوُلَاةَ الْحَكَمِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ عَامِرٌ لَمْ يَخْرَبْ فِيهِ خَرَابٌ، وَلَمْ تَبْنِ خُزَاعَةُ فِيهِ شَيْئًا بَعْدَ جُرْهُمٍ، وَلَمْ تَسْرِقْ مِنْهُ شَيْئًا عَلِمْنَاهُ وَلَا سَمِعْنَا بِهِ، وَتَرَافَدُوا عَلَى تَعْظِيمِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو الْغَبْشَانِيُّ:
[البحر الرجز]
نَحْنُ وَلِينَاهُ فَلَمْ نَغُشَّهْ ... وَابْنُ مُضَاضٍ قَايِمٌ يَهُشُّهْ
يَأْخُذُ مَا يُهْدَى لَهُ يَفُشُّهْ ... نَتْرُكُ مَالَ اللَّهِ مَا نَمُشُّهْ "