شاء الله تعالى أن تكون معجزة محمد صلى الله عليه وسلم نمطاً مخالفاً لمعجزات الرسل، وكان الله قادراً على أن ينزل معجزة حِِسيّة تذهل من يراها:(إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)[الشعراء: ٤] . فلو شاء الله تعالى لأنزل من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالاً، ولا انصرافاً عن الإيمان، ويصور خضوعهم لهذه الآية في صورة حسية:(فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)[الشعراء: ٤] ملوية محنية، حتى لكأنَّ هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون. ولكنه - سبحانه - شاء أن يجعل معجزة هذه الرسالة الأخيرة آية غير قاهرة، لقد جعل آيتها القرآن، منهاج حياة كاملة، معجزاً في كلِّ ناحية:
معجزاً في بنائه التعبيري، وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه، كما هي الحال في أعمال البشر، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدلّ على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.
معجزاً في بنائه الداخلي، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل، وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية، إذ تقصر عن تلبيتها..، وكلها مشدودة إلى محور واحد، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة، ولا بد أن يكون هناك علم مطلق، غير مقيد بقيود الزمان والمكان، هو الذي أحاط به هذه الإحاطة، ونظمه هذا التنظيم.
معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح