بها؛ كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته واستمتاعه عن هذا الطريق بجمال اللون والضوء, أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين وليس له من مرشد إلا نفسه. ولأن يحيا المرء دون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما؛ والتلذذ برؤية كل ما يستكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تتكشف لنا بالفلسفة.
وأود أن أقول أخيرا: إن هذه الدراسة ألزم لإصلاح أخلاقنا وهداية سلوكنا في الحياة من استعمال عيوننا لهداية خطواتنا. والبهائم العجماوات التي لا هم لها إلا حفظ جسومها، لا تكل عن الدأب والسعي في طلب أقواتها. أما الناس الذين أهم جزء فيهم هو الذهن, فيجب عليهم أن يجعلوا طلب الحكمة همهم الأكبر؛ لأن الحكمة هي القوت الصحيح للعقول. وأستطيع أيضا أن أقنع نفسي أن هنالك كثيرين ما كان يفوتهم هذا الطلب لو أنهم أملوا شيئا من النجاح فيه, وعرفوا مبلغ مقدرتهم عليه. وليس من النفوس نفس مهما تكن من قلة النبل، تظل متعلقة بالحواس تعلقا شديدا فلا تتحول عنها حينا من الدهر، متشوقة إلى خير آخر أعظم وإن تكن في الغالب تجهل ماهية ذلك الخير. والذين آتاهم الله حظا عظيما، فأنعم عليهم بالعافية والمناصب والأموال ليسوا أقل من غيرهم رغبة في ذلك الخير، بل إني لأحسبهم أشد لهفة واشتياقا إلى خير آخر أكمل, وأسمى من كل ما يملكون من خيرات.
وهذا "الخير الأسمى" إذا نظر إليه بالنور الفطري دون نور الإيمان، لم يكن شيئا سوى معرفة الحقيقة عن طريق عللها الأولى، أعني: الحكمة التي تدرسها الفلسفة١. ولما كانت هذه الأمور كلها حقا لا مراء فيها، لم يصعب إقناع الناس بها, متى أحسنا عرضها والتدليل عليها.
١ إن فضل التفلسف عند ديكارت ليس مقصورا على سمو النظر وشرف الرتبة، بل إن فيه أيضا منفعة عملية، والفلسفة ضرورية لإصلاح عقولنا ولهداية حياتنا، إذ ترشدنا إلى ماهية "الخير الأسمى". والخير الأسمى لكل واحد عبارة عن التصميم على فعل الخير، وما يحدثه ذلك من رضى في النفس. ولست أرى غيره خيرا يعدله في جلال قدره, ويكون في مقدور كل واحد؛ فإن خيرات البدن والحظ والمال ليست في مقدورنا على الإطلاق؛ والخير الأسمى، كما رأينا في إهداء "المبادئ" إلى الأميرة إليزابث، لا يفترق عن معرفة الحقيقة.