لكن من حيث إنه قد حِيل بيننا وبين أن نعتقد هذه الأمور، بسبب التجربة التي تدلنا على أن محترفي الفلسفة هم غالبا أقل حكمة وأقل اعتصاما بالعقل من غيرهم ممن لم يشتغلوا بتلك الدراسة قط، فيلزمني ههنا أن أشرح بإيجاز: مم تتألف كل المعرفة التي نملكها الآن؟ وإلى أي درجات الحكمة وصلنا؟ الأولى لا تشتمل إلا على تصورات بلغ من وضوحها بذاتها أن أصبح اكتسابها ميسورا دون تأمل، والثانية تشتمل على كل ما تدلنا عليه تجربة الحواس، والثالثة ما نتعلمه من أحاديثنا مع غيرنا من الناس، ويصح أن نضيف إلى ما سبق درجة رابعة، وهي مطالعة الكتب لا أقول جميعا، بل على الخصوص تلك التي كتبها أشخاص قادرون على تزويدنا بإرشادات حسنة؛ لأن مطالعة الكتب ضرب من التحدث مع مؤلفيها. ويبدو لي أن كل الحكمة التي يقع امتلاكها في مألوفنا مكتسبة بهذه الطرق الأربعة فقط؛ لأني لا أضع الوحي الإلهي من بينها؛ إذ إن هدايته ليست على درجات، وإنما يرفعنا دفعة واحدة إلى إيمان لا يتزعزع.
نعم, لقد وجد في كل العصور من فطاحل المفكرين من حاولوا في سعيهم إلى بلوغ الحكمة أن يجدوا طريقا خامسا أرفع وأوثق بمراحل من الطرق الأربعة الأخرى؛ ذلك هو البحث عن العلل الأولى والمبادئ الحقة التي يستطيع المرء أن يستنبط منها أسباب كل ما في مقدورنا أن نعرفه، وعلى هؤلاء الذين اشتغلوا بهذا البحث على الخصوص أطلق الناس اسم الفلاسفة١. وأول وأكبر من
١ لقد كان مطمع الفلسفة على الدوام أن تحقق الوحدة بين المعارف الإنسانية المختلفة؛ ولذلك عمدت إلى تفسير الأشياء بواسطة مبدئها الأول. ومثل هذا المقصد يقتضي أن تكون الفلسفة استنباطية، بمعنى أن تكون نسقا واحدا، كل اكتشاف فيه يكون بمثابة مبدأ لتفسير المشكلة التي تليه.