وصلت إلينا مؤلفاتهم هما أفلاطون وأرسطو, ولم يكن بينهما من فرق سوى أن أفلاطون قد سار على آثار أستاذه سقراط, فاعترف في خلوص نية بأنه لم يهتد بعد إلى شيء يقيني، وأنه قد اكتفى بتحرير ما بدا له شيئا محتمل الصدق, وتخيل لهذا الغرض بعض مبادئ حاول بواسطتها أن يفسر الأشياء الأخرى. أما أرسطو فكان أقل صراحة، ومع أنه تتلمذ على أفلاطون عشرين سنة ولم يكن لديه مبادئ غير مبادئ أستاذه, فقد غير طريقة عرضها تغييرا تاما، وقدمها على أنها صحيحة ومؤكدة، ولو أن الأرجح أنها لم تكن قط في تقديره كذلك١.
ولقد أصاب هذان الرجلان من الألمعية والحكمة التي تكتسب بالوسائل الأربع السابقة ما أضفى عليهما سلطانا كبيرا جعل من جاءوا بعدهما يقفون عند متابعة آرائهما أكثر مما يسعون إلى شيء أفضل. والنزاع الكبير الذي نشب بين تلاميذهما إنما كان مداره أن يتبينوا: هل ينبغي أن توضع الأشياء كلها موضع الشك أم أن هناك أشياء يقينية؟ وهو خلاف أفضى بالفريقين إلى ضلال بعيد؛ لأن فريقا ممن ذهبوا إلى الشك قد وسعوا نطاقه وجعلوه يمتد إلى أفعل الحياة،
١ ذهب "ليار" في طبعته لكتاب "المبادئ" "الطبعة الرابعة، مارس سنة ١٩٢٦" إلى أن حكم ديكارت هنا على أفلاطون وأرسطو حكم سطحي وغير دقيق وغير عادل. وقد تابعه "دوراندان" في طبعته لكتاب "المبادئ" "باريس ١٩٥٠" فقال: إن ديكارت لم يكن محقا في اتهام أرسطو بقلة الصراحة. أما نحن, فنرى أنه قد فات كلا الباحثين أن ديكارت لم يكن بصدد حكم عام على فلسفتي أفلاطون وأرسطو، وإنما الذي كان يعنيه هو مشكلة البحث عن الحقيقة أو مشكلة اليقين, وإذن, فقد جاء حكمه على آرائهما من هذا الوجه فحسب. ويبدو لنا خلافا لليار ودوراندان أن هذا الحكم في غاية النفاذ والسداد؛ فالذي يستخلص من محاورات أفلاطون كلها هو الاعتراف الصريح بأنه ليس لدينا يقين, وإنما الذي نناله من المعرفة هو شيء شبيه بالحق، وحتى محاورة "فيدون" إنما نخرج منها، لا بأدلة يقينية، بل بأسباب تدعونا إلى الاعتقاد بخلود الروح بعد مفارقتها للبدن. أما أرسطو, فبعد مجهود طويل شاق لتفنيد أقوال أفلاطون رجع إلى ما ذهب إليه أستاذه, ولكن في صورة جديدة. وهذا هو الذي جعله يقف في فلسفته مواقف مختلفة ومتعارضة؛ فهو في المنطق صوري، وفي الميتافيزيقا واقعي, وفي الأخلاق وسط بين المثالية والواقعية "انظر كتابنا: "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة ١٩٥٨".