بحيث إنهم أهملوا استعمال الحيطة والتبصر في سلوكهم، أما من ناصروا مذهب اليقين فقد افترضوا أنه يعتمد على الحواس، فاطمأنوا إليها كل الاطمئنان، حتى إنه يقال: إن "أبيقور" بلغت به الجرأة في أقواله أن صرح، خلافا لجميع استدلالات علماء الفلك، بأن الشمس ليست أكبر حجما مما تبدو لنا.
وهناك عيب يمكن أن يلاحظ في جميع المنازعات، وهو أنه لما كانت الحقيقة وسطا بين الرأيين المتقابلين، فإن كل طرف يبعد عنها بمقدار ما يكون ميله إلى معارضة الطرف الآخر.
لكن خطأ من مالوا كل الميل إلى جانب الشك لم يجد من تابعه زمنا طويلا. أما خطأ الفريق الآخر فقد تيسر تصحيحه شيئا ما، حين تبين أن الحواس تخدعنا في كثير من الأشياء.
غير أني لا أحسب أن ذلك الخطأ قد زال زوالا تاما؛ لأن أحدا لم يبين أن اليقين ليس في الحواس بل في الذهن وحده حين يكون لديه مدركات بديهية، وأنه حين لا يكون لدينا إلا معارف اكتسبناها عن طريق درجات الحكمة الأربع الأولى، حينذاك لا ينبغي أن نشك في الأشياء التي تبدو لنا حقيقة إذا كانت متصلة بسلوكنا في الحياة، ولكن لا ينبغي كذلك أن نعدها يقينية يقينا يمتنع معه أن نغير رأينا فيها, إذا اضطرتنا إلى ذلك بداهة من بداهات العقل١.
١ أراد ديكارت هنا أن يقسم الفلسفة فريقين: فريق من رأوا الصعوبة في إقامة علم أكيد، لكنهم لم يحاولوا أن يتغلبوا عليها, فوقفوا عند الشك وقفة نهائية، في حين أن الشك ما هو إلا مرحلة يتلوها مراحل. وفريق من لم يروا الصعوبة، ووثقوا بوسيلة للمعرفة سهلة لكنها خداعة، وهي الحواس, والعيب المشترك عند الفريقين، أنهم لم يقدروا على مجاوزة مرتبة المعرفة الحسية، ولم يروا أن هنالك ضربا من المعرفة صعبا لكنه أكيد وهو الفهم.