للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد نشأ عن الجهل بهذه الحقيقة, أو عن عدم استعمالها ممن عرفوها أن معظم من أرادوا في هذه القرون الأخيرة أن يكونوا فلاسفة قد تابعوا أرسطو متابعة عمياء، حتى إنهم كثيرا ما أفسدوا معنى كتاباته، ناسبين إليه آراء مختلفة ما كان ليقر نسبتها إليه لو أنه عاد إلى هذه الدنيا. أما من لم يتابعوه -ومنهم كثيرون من ذوي العقول الراجحة١- فلم يبرءوا من التشبع بآرائه في شبابهم؛ لأنه لا يعلم في المدارس سواها، وقد شغلهم ذلك شغلا حال دون وصولهم إلى معرفة المبادئ الحقة. ومع أني أقدرهم جميعا ولا أريد أن أعرض نفسي للخزي بتوجيه اللوم إليهم، فإني أستطيع أن أقدم على قولي دليلا لا أظن أن منهم من ينكره، وهو أنهم قالوا بشيء لم يكونوا على معرفة كاملة به وافترضوه مبدأ. فأنا مثلا لا أعرف منهم من يفترض الثقل في الأجسام الأرضية، ولكن مع أن التجربة تدلنا بوضوح على أن الأجسام التي تسمى ثقيلة تهبط نحو مركز الأرض, فإننا لا نعلم مع ذلك ما هي طبيعة ما يسمى ثقلا، أي: طبيعة العلة أو المبدأ الذي يجعلها تهبط على هذا النحو، وعلينا أن نستقي معرفتنا بذلك من مصدر آخر. ويمكن أن يقال مثل هذا عن الخلاء والذرات، وعن الحار والبارد، وعن الجاف والرطب، وعن الملح والكبريت والزئبق وما شابه ذلك مما افترضه بعضهم مبادئ٢.

لكن جميع النتائج التي تستنبط من مبدأ ليس ببديهي, لا يمكن أن تكون بديهية مهما يكن الاستنباط من حيث صورته صحيحا. ويترتب على هذا أن


١ لعل ديكارت قد انصرف باله, وهو يكتب هذه العبارة إلى الفلاسفة الأفلاطونيين من أهل "عصر النهضة" أو إلى بعض معاصريه مثل "جاليليو".
٢ أنكر ديكارت على "المدرسيين" التجاءهم إلى "الكيفيات الحسية" -كالحار والبارد ... إلخ- واتخاذها مبادئ لتفسير الأشياء. فمن حيث إن تلك الكيفيات ليست معاني بسيطة, بل مركبة لاعتمادها في وقت واحد على طبيعة الموضوع وطبيعة الذات المدركة، فهي ليست بالمعاني الواضحة بذاتها. إن التجديد الأكبر عند ديكارت -كما يقول ليار- أنه أراد أن لا يستخدم إلا مبادئ بديهية، وجعل بداهة العقل وحدها معيارا للحق. "ليار: طبعة "المبادئ" ص١٤".

<<  <   >  >>