واضحة جدا: أولا، بالاستناد إلى النحو الذي وجدتها عليه، أعني: باطّراح جميع القضايا التي عرض لي فيها وجه من وجوه الشك، إذ من المستيقن أن القضايا التي أمعنا النظر فيها، ووضعناها موضع الاختبار فلم نستطع اطراحها بعد ذلك، هي أجلى وأوضح ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرف.
ونظرا إلى أني رأيت أن من يريد أن يشك في كل شذى لا يستطيع مع ذلك أن يشك في وجوده حين يشك، وأن ما سبيله في الاستدلال هذا النحو من عدم استطاعته أن يشك في ذاته ولو كان يشك في كل ما سواه, ليس هو ما نقول عنه: إنه بدننا, بل ما نسميه روحنا أو فكرنا. بهذا الاعتبار أخذت كينونة هذا الفكر أو وجوده على أنه المبدأ الأول، ومن هذا المبدأ استنبطت بكل وضوح المبادئ التالية، أعني: وجود إله هو صانع ما هو موجود في هذا العالم. ولما كان الله تعالى منبع كل حقيقة، فإنه لم يخلق الذهن الإنساني على فطرة تجعله يخطئ في الحكم الذي يطلقه على الأشياء التي يتصورها تصورا واضحا جدا ومتميزا جدا، تلك هي المبادئ التي استعملتها فيما يتصل بالأشياء اللامادية أو الميتافيزيقية. ومن هذه المبادئ استنبطت استنباطا واضحا كل الوضوح، مبادئ الأشياء الجسمانية أو الفيزيقية، أعني: وجود أجسام ممتدة طولا وعرضا وعمقا، وذات أشكال مختلفة ومتحركة على أنحاء مختلفة. هذا بإيجاز جميع المبادئ التي استنبطت منها حقيقة الأشياء الأخرى١. والدليل الثاني على وضوح هذه المبادئ هو أن الناس عرفوها في كل زمان وتلقوها جميعا على أنها مبادئ صحيحة ولا سبيل إلى الشك فيها، ولا يستثنى منها إلا وجود الله، إذ وضعه بعضهم موضع الشك، بسبب إسرافهم في الاعتداد بمدركات الحواس، وأنهم لا يستطيعون أن يروا الله بأبصارهم, ولا أن يلمسوه بأيديهم.
١ تلك خلاصة للميتافيزيقا الديكارتية كلها، وفيها يشير ديكارت في بيان قوي جلي إلى المراحل المختلفة التي مر بها فكره.