يحل انتباهه من أمر عسرا, ودون أن يقف عند الصعوبات التي قد تعترض سبيله فيه حتى يلم إلماما عاما الموضوعات التي تناولتها. فإذا وجد بعد ذلك أنها جديرة بأن تبحث، ورغب في استطلاع أسبابها استطاع أن يقرأ الكتاب مرة أخرى لكي يلتفت إلى ارتباط أفكاري واتصالها. ولكن لا ينبغي أن يطرح الكتاب إذا لم يتبين ذلك الارتباط في كل المواضع أو لم يفهم أفكاري كلها، بل ينبغي أن يضع بالقلم علامة بإزاء المواضع التي يجد فيها صعوبة، وأن يمضي في القراءة دون توقف حتى النهاية. واعتقادي أنه إذا قرأ الكتاب مرة ثالثة فسيجد فيه حلا لأغلب الصعوبات التي وضع العلامات بإزائها من قبل, فإذا بقيت بعد ذلك بعض الصعوبات وجد لها الحل أخيرًا متى أعاد القراءة.
لقد استرعى نظري عند دراسة طبائع المفكرين على اختلافها أنه لا يكاد يوجد منهم من قد بلغ من الغلظة والتخلف ما يجعله عاجزا عن أن يثوب إلى الرأي السديد، بل أن يحصل أرفع العلوم متى وجه التوجيه السليم، وهذا يمكن إثباته كذلك بدليل العقل؛ لأنه ما دامت المبادئ واضحة، وما دام لا ينبغي أن يستخلص منها شيء إلا باستدلالات بديهية جدا، فكل امرئ لديه دائما من قوة الذهن ما يعينه على فهم الأشياء التي يعتمد عليها. لكن فضلا عن العقبات الناشئة من الأوهام الشائعة التي لا يخلو منها أحد خلوا تاما، وإن تكن أشد إضرارا بمن أحالوا دراسة العلوم الفاسدة، فيكاد يحدث دائما أن أصحاب الأذهان المعتدلة يهملون الدراسة؛ لأنهم لا يظنون أنهم قادرون عليها، وأن غيرهم ممن هم أشد منهم حماسة يتعجلون فيشتطون، وكثيرا ما يؤدي تعجلهم إلى أن يتلقوا مبادئ ليست بديهية يستخلصون منها نتائج غير يقينية١؛ ولذلك أود أن أؤكد لمن يبالغون في عدم الاطمئنان إلى قوة أذهانهم بأنه لا شيء في
١ يرى ديكارت أن التعجل والتهور سببان رئيسيان من أسباب الخطأ.