ولكن لكي أنهض بهذا المشروع, وأمضي فيه حتى غايته ينبغي فيما يلي أن أفسر كذلك طبيعة كل واحد من الأجسام الأخرى الأخص والموجودة على الأرض، أعني: طبيعة المعادن والنبات والحيوان وخصوصا الإنسان، ثم يجب أن أبحث بحثا دقيقا في الطب والأخلاق والميكانيكا، هذا ما ينبغي أن أعمل لكي أعطي الناس بناء للفلسفة تاما. ولا يخامرني بعد شعور بأني بلغت من كبر السن، ولا من عدم الاطمئنان إلى قواي، ولا من البعد عن معرفة ما يتبقى، مبلغا يحول دون الإقدام على إتمام المشروع إذا توافرت لدي إمكانية القيام بجميع التجارب التي أحتاج إليها تأييدا لاستدلالاتي وتبريرا لها١، ولكن لما رأيت أن ذلك يقتضي نفقات لا قبل لفرد مثلي على تحللها ما لم يجد لدى الجمهور عونا له، ولما رأيت أنه لا ينبغي لي أن أنتظر هذا العون، فقد بدا لي أن الأولى أن أقنع بالدرس ابتغاء تثقيف نفسي، وأن خلفائي سيلتمسون لي العذر إذا ما تقاعدت عن العمل من أجلهم في المستقبل.
١ إن فيزيقا ديكارت -كما يقول ليار- مطبوعة بطابع الأولية، أي: التقدم بالرتبة والصدارة العقلية؛ فهي تمثل العالم الخارجي على غرار جهاز آلي، كل شيء فيه يتبع قانون الأشكال والحركات. وهذا التصور لا يأتي من التجربة، بل من الذهن الذي لا يرى في العالم الحي من وضوح وتمييز، وبالتالي من حقيقة وواقع، إلا في الامتداد والشكل والحركة. بيد أن التجربة بمعناها الدقيق تؤدي دورا هاما في هذه الفيزيقا الرياضية، فهي التي تضع المشكلة التي يطلب حلها، ومبادئ الفيزيقا, مهما تكن أولية، لا تستغني عن التجربة, فإننا لا نعرف بالعقل وجود العالم وخواص الظواهر بل بالتجربة، ونستطيع أن نتصور بالفكر عددا لامتناهيا من العوالم المختلفة الممكنة، لكن التجربة وحدها تكشف لنا عن العالم الواقعي الذي يتعين تفسيره. إنها تعين أيضا على إظهار مدى الانطباق بين التصورات والوقائع؛ ولذلك رأينا ديكات دائم الحرص على الجمع بين العقل والتجربة, ويقول لنا "بابيه" صاحب سيرة الفيلسوف: "إن الشتاء كله الذي قضاه ديكارت في أمستردام سنة ١٦٢٩ قد انصرف فيه إلى دراسة علم التشريح, وقد قال للأب "مرسن" بأن شغفه بهذه المعرفة قد دفعه إلى أن يذهب كل يوم إلى قصاب ليشهده وهو يقوم بذبح البهائم، وكان يحمل معه إلى بيته بعض أجزاء من الحيوان ليقوم بتشريحها بنفسه وعلى راحته". "انظر ليار: "ديكارت" فصل عن دور التجربة في الفيزيقا الديكارتية".