حين ندرك شيئا ما، دون أن نحكم عليه بأي صورة من الصور، لا يكون هنالك خطر من وقوعنا في الضلال، بل إننا حتى لو حكمنا عليه فلن نقع في الخطأ كذلك، ما دمنا لا نمنح تصديقنا إلا لما نعرف في وضوح وتميز أنه مفهوم, أو متضمن فيما نحكم عليه؛ ولكن الذي يجعلنا نخطئ عادة هو أننا نحكم غالبا دون أن تتوافر لدينا معرفة دقيقة بما نحكم عليه.
٣٤- في أن الإرادة لازمة للحكم لزوم الذهن:
إني أقر بأننا لا نستطيع أن نحكم على شيء ما لم يتدخل ذهننا فيه؛ لأنه لا محل للافتراض أن إرادتنا تتصرف فيما لا يدركه ذهننا على أي نحو من الأنحاء. ولكن من حيث إن الإرادة ضرورية إطلاقا؛ لكي نمنح تصديقنا لما أدركنا في أي درجة من الإدراك، ومن حيث إنه ليس من الضروري لتكوين أي حجم من الأحكام أن يكون لدينا معرفة تامة كاملة. فمن هنا يتأتى لنا أننا في كثير من الأحيان نمنح تصديقنا لأشياء لم تكن معرفتنا بها إلا معرفة مبهمة جدا١.
٣٥- في أن الإرادة أوسع نطاقا من الذهن، وأنها لذلك مصدر لأخطائنا:
يضاف إلى ذلك أن إدراك الذهن إنما يتناول القليلة المعروضة له، فمعرفته دائما محدودة جدا؛ بينما الإرادة على نحو ما، تبدو لامتناهية؛ لأننا لا ندرك شيئا يمكن أن يكون موضوعا لإرادة أخرى, حتى ولو كانت هي إرادة الله الضافية، إلا وتستطيع إرادتنا أن تمتد إليه, وهذا هو السبب في أننا نحملها
١ يقول ديكارت في التأمل الرابع: "نظرت حينئذ إلى نفسي نظرة تعمق واستقصاء، وأخذت أتحرى عن خطئي الذي يدل وحده على أن فيّ نقصا، فوجدت أنه يعتمد على اشتراك علتين، هما قدرتي على المعرفة، وقدرتي على الاختيار، أو حرية الحكم، أعني: ما لدي من قوة الفهم والإرادة معا" "التأملات, ترجمتنا العربية، ص١٣٣".