للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولكن هذا التعداد ليس بضروري؛ لأننا نخلو من أن نعرفها حين تعرض الفرصة للتفكير فيها, وحين لا يكون لدينا من الأوهام ما يعمي أبصارنا عنها١.

٥٠- في أن هذه الحقائق جميعا يمكن أن تدرك بوضوح, لكن إدراكها ليس ميسورا لجميع الناس بسبب ما يغشى عقولهم من أوهام شائعة, وأحكام مبتسرة:

أما الحقائق التي تسمى معاني شائعة, فمن المستيقن أنها يمكن معرفتها لدى الكثيرين بغاية الوضوح المتميز؛ لأنها إن لم تكن كذلك لما استحقت أن تسمى بهذا الاسم، ولكن من الحق أيضا أن منها ما يستحق هذا الاسم في نظر البعض الآخر؛ لأنها ليست لديهم بديهية بداهة كافية. وليس معنى هذا أني أعتقد أن ملكة المعرفة الموجودة عند بعض الناس هي أبعد مدى مما هي عليه عند جميعهم، ولكني أريد أن أقول بأن هنالك أشخاصا قد طبعوا في معتقداتهم منذ زمن طويل آراء مخالفة لبعض هذه الحقائق، فكانت مانعا لهم من أن يدركوها وإن تكن جلية جدا لدى من لم يشغلوا أنفسهم على ذلك النحو٢.


١ تتجلى هنا إحدى سمات "الجوانية" في الفلسفة الديكارتية: لا يريد ديكارت أن يحصي الحقائق؛ لأن كل إنسان يستطيع استكشافها بنفسه ما دام منتبها واعيا منهجيا، ولأن خصوبة الحقائق لا تكون في حفظها وتجميدها، بل في معاناتها والانفعال بها، وكل فكرة جاهزة منقولة فهي هامدة لا حياة فيها.
٢ ويقول ديكارت في بداية "المقال عن المنهج": "العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل، وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق, تتساوى بين كل الناس بالفطرة. وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر, وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر فيه الآخر" ""المقال عن المنهج" ترجمة الأستاذ محمود الخضيري ص٣, ٤".

<<  <   >  >>