نكون بسبيل أن نعرف هل أحد هذه الجواهر موجود حقا؟ أعني: هل هو موجود؟ المتقوم بذاته لا تنكشف معرفته لنا، بل إن من الميسور لنا أن نهتدي إلى الجوهر ذاته من أية صفة من صفاته نستطيع أن نلحظها فيه، وما من صفة منها إلا وتكون كافية لتحقيق الإدراك إذ إن من المعاني الشائعة لدى الناس جميعا أن العدم لا يمكن أن تكون له محمولات ولا خواص أو صفات؛ ولذلك نكون محقين إذا أدركنا صفة من الصفات قائمة، فاستنتجنا أنها صفة لجوهر ما وأن هذا الجوهر موجود.
٥٣- في أن كل جوهر له صفة أولى، وأن صفة النفس هي الفكر, كما أن الامتداد صفة الجسم:
ولكن مع أن كل صفة تكفي لتعريفنا بالجوهر, إلا أن في كل جوهر صفة تقوم طبيعته وماهيته وتعتمد عليها جميع الصفات الأخرى، وأعني بذلك: أن الامتداد في الطول والعرض والعمق هو المقوم لطبيعة الجوهر الجسماني، وأن الفكر هو المقوم لطبيعة الجوهر الذي يفكر؛ لأن كل ما يستطاع نسبته إلى الجسم يفترض وجود الامتداد من قبل، ولا يعدو أن يكون اعتمادا على ما هو ممتد١ وكذلك جميع الخواص التي نجدها في الشيء الذي يفكر ليست إلا أنحاء مختلفة من الفكر. وعلى ذلك فنحن مثلا لا نستطيع أن نتصور شكلا ما لم يكن في شيء ممتد، ولا حركة إلا في فضاء هو ممتد. وكذلك الخيال والشعور والإرادة تعتمد على الشيء المفكر بحيث لا نستطيع أن نتصورها بدونه، ولكننا بالعكس نستطيع أن نتصور الامتداد دون شكل أو دون حركة، ونتصور الشيء الذي يفكر دون خيال أو شعور.
١ قارن هذا بما قاله ديكارت في التأمل الثاني في المثل المشهور عن قطعة الشمع ""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص٧٧-٧٩".