تقدم أن السنة كانت محفوظة في صدور العدول الأمناء، لا يعرف مكانها دس أو تغيير، ومن ذلك فقد كانت من بعض الصحابة وكبار التابعين رحلات إلى بعض البلدان لطلب الخبر وسماعه ممن سمع أو انفرد برواية؛ ومضت المائة، فكل رواة السنة إما صحابي عدل ضابط وإما تابعي كبير ثقة يتحرى الصدق ويتشدد في الرواية، إلا ما كان من اليسير الذي يقع لبعضهم من الأوهام والأخطاء.
ومع ذلك فقد تكلم الرواة من الصحابة جماعة منهم، ونقدوا بعض ما روى عنهم، فتكلم ابن عباس وأنس بن مالك والسيدة عائشة، وتكلم من كبار التابعين الشعبي وابن المسيب وابن سيرين وغيرهم، وكان القول منهم في الرجل الواحد بعد الرجال لقلة الضعفاء ذلك العصر.
ولما كانت أوائل المائة الثاني وعصر أوساط التابعين بعد الخمسين والمائة - وفيها كان أتباع التابعين، وظهرت الفرق السياسية وانتشرت النحل والعصبية، وزاحمت الثقافات الأعجمية المعارف الشرعية، وظهر من يتعمد الكذب، ترويجا لبدعته وانتصارا لمذهبه ونحلته - فاضطر العلماء الجهابذة من علماء الجرح والتعديل إلى اتساع النظر والاجتهاد في التفتيش عن الرواة ونقد الأسانيد, فتكلم شعبة ومالك ومعمر، ثم ابن المبارك وابن عيينة، ثم يحي بن سعيد القطان وتلامذته كعلي بن المدني ويحي بن معين.
وتكلم من علماء المائة الثالثة أحمد بن حنبل، وما نقله تلاميذه في أسئلتهم له ومحاورتهم معه، ومن أعظم ثمرات تلك المحاورات كتاب المسائل التي وجهها إليه تلميذه أبو داود السجستاني، فهو جامع شامل نافع، وأيضا رسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكة في ببان طريقته في سننه الشهيرة، وتعليقاته على أحاديثها التي تعتبر النواة لعلوم الحديث، وما كتبه تلميذ أبي داود أبو عيسى الترمذي الحافظ في كتابه "العلل المفرد" في آخر جامعه، وما بثه في الكلام على أحاديث جامعه في طيات الكتاب من تصحيح وتضعيف وتقوية وتعليل.
وللإمام البخاري التواريخ الثلاثة، ولغيره من علماء الجرح والتعديل من معاصريه ومن بعدهم.