لذا فإنه يتعين على العاقل البصير أن يعلم الفرق بين الاتباع والتقليد الأعمى، وأن يعود إلى أهل البصيرة في هذا الشأن، ليقف على حقيقة الأمر، ويعلم جليته، وبذلك يبعد بتوفيق الله من الوقوع في مثل ما وقع فيه من رد عليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بالأبيات الدالة على عظيم عنايته، ومدى حرصه على التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنه بحمد الله قد ألف العلماء كتاباً في هذا الشأن يسترشد بها البصير ويستنير منها الراغب الخبير، ونحن في وقت عجت في المكتبات بالكتب المطبوعة والمخطوطة، وانتشر العلم، وعمت الثقافة بحيث أصبح العذر عديم الجدوى، والاحتجاج بالجهل قليل المفعول.
ومن هذه الكتب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وإيقاظ الهمم للفلاني, والاعتصام للشاطبي، والقول المفيد للشوكاني، وإرشاد الناقد للصنعاني، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية الحراني، وغيرها كثير وكثير.
ويعجبني في هذا الباب ما قاله منصور الفقيه المغربي رحمه الله:
خالفوني وأنكروا ما أقول ... قلتُ: لا تعجلوا فإني سؤول
ما تقولون في الكتاب فقولوا ... هو نور على الصواب دليل
وكذا سنة الرسول وقد ... أفلح من قال ما يقول الرسول
واتفاق الجميع أصل وما ... تنكر هذا وذا وذاك العقول
وكذا الحكم بالقياس فقلنا ... من جميل الرجال يأتي الجميل
فتعالوا نرد من كل قول ... ما نفى الأصلُ أو نفته الأصول
فأجابوا, وناظروا وإذا العلم ... لديهم هو اليسير القليل
هذا ولم يقصر الشيخ الأفريقي استفادته وتلقيه من دار الحديث فقط بل كان يتردد على الحلقات العلمية في المسجد النبوي، والمسجد النبوي جامعة من الجامعات وموضع إعداد القياديين من رجال العلم والفكر، وأرباب الشهامة والكرامات من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وكان يومها يعج بالطلاب الذين ينهلون من المورد الصافي، ويتزودون من ميراث النبوة ما يحيي قلوبهم ويهذب أخلاقهم، وتقر به عيونهم ونفوسهم.
وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم، وكانت أسطواناته وسواريه مسنداً لظهور العلماء والفقهاء، والمحدثين والمفسرين يتحلق حولهم الطلاب، وينهلون من علمهم وفقههم العديد من الطبقات وعلى مختلف الأعمار والفئات.