للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عن المعنى، ونحن نعلم ان الجاحظ - وهو معتز لي - جعل سر الإعجاز قائماً في " النظم " وانه هو صاحب نظرية " المعاني المطروحة " التي يعرفها البدوي والحضري والعربي والعجمي؟ ألا يوحي هذا بشيء من التناقض؟ لتوضيح ذلك علينا أن نقرر أولا أن كلمة " معنى " مطاطة متعددة الدلالات، فإذا قيل أن الاعتزال لفت الانتباه إلى المعاني فإن ذلك يفيد أنه اهتم بالمعاني العقلية أو كما وضح عبد القاهر من بعد: إلى المعاني التي يشهد العقل بصحتها، فهذه هي التي يؤثرها عبد القاهر - ومن بعده ابن الأثير - على التخييل، أي على الصورة الشعرية التي تداني العقل من طريق التمويه. أما المعاني التي يقصدها الجاحظ فهي مادة المشاهدة والتجربة، في الحياة عامة. وهذه حقاً مطروحة للناس جميعاً، وهم لا يتفاوتون غلا في " نظم) التعبير عنها. وقد أدرك عبد القاهر بنفاذ نظرته ان الجاحظ كان مضطراً للمناداة بذلك الرأي خدمة للإعجاز لأنه كان يرد على من يرون أن معاني القرآن لا تستقل عن المعاني (أي المواد) العامة التي يتحدث عنها الشاعر والخطيب. ولكن رأي الجاحظ أسيء فهمه، فأوجد فئة من النقاد يحاولون التهوين من شان المعنى في سبيل الدفاع عن النظم (الآمدي مثلاً) ؛ أو يدافعون عن الصناعة اللفظية دون أن يحاولوا إدراك مرامي الجاحظ، أو يتبينوا موضع الخطر في منهجهم النقدي. ومن شاء أن يدرس أثر الاعتزال في تاريخ النقد - إيجاباً وسلباً - وجد ذلك في تضاعيف التطور النقدي حسبما عرضته في هذا الكتاب، وسألمح إلى بعضه في سياق هذه المقدمة، ولكن قبل ذلك يتعين علي أن أعود - بعد هذا الاستطراد الضروري - للحديث عن الصلة بين النقد وبين الإحساس بالتغير والتطور.

عندما نتعمق المواقف النقدية لدى كبار النقاد - وقد مر بنا الاستشهاد بالجاحظ - في تاريخ النقد العربي سنجد أن الإحساس بالتطور والتغير هو العامل الخفي في شحذ هممهم للنقد، يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا

<<  <   >  >>