للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التذوق، ولهذا كان الصدق في الشعر أصلح لأنه مقبول لدى العقل، ثم كان الاعتزال يعني رداً على الثنوية دفاعاً عن الدين. ومن ضمن ذلك الرد على الثقافة التي تبث الأفكار الثنوية بدعوة مضادة هي العودة إلى ينبوع الثقافة العربية، ومصدر المعرفة العربية، وذلك هو الشعر؛ كذلك فغن الاعتزال يعتمد على الجدل من اجل الإقناع، ولهذا لم يجد ضيراً في أن يجعل الشعر إحدى وسائل الإقناع أي أن يتحول إلى شكل خطابي وان تقترب المسافة بينه وبين النثر؛ وكانت بعض نماذج الشعر القديم تسعف على هذا التصور، وفي مثل هذا الجو نسمع الثناء على قصيدة عبيد بن الأبرص بأنها أحرى أن تسمى " خطبة بليغة "؛ وفي طبيعة هذه النشأة نستطيع أن نلمح السيئات التي علقت بالنقد الأدبي من حيث ارتباطه بالاعتزال؛ فقد أصبح النقد والشعر كلاهما نشاطين عقليين، وتحولت مهمة الشعر مدة طويلة إلى تقديم المعرفة، وأخذ النقاد يقفون وقفات طويلة عند البحث عن المعاني. ومن ثم عن قضية أخذها أو سرقتها، وطغت مشكلة السرقات الشعرية - أو كادت - على سائر المشكلات النقدية وأهدرت في سبيلها جهود كثيرة (وسأعود للحديث عنها في غير هذا الموضع) ، وكاد يمحي الفاصل بين الشعر والخطابة في نظر النقاد، ووضعت مقاييس عامة تصلح للشعر مثلما تصلح للخطابة؛ وكان لابد لهذا الموقف من ان يحدث رد فعل، وجاء هذا الرد على ثلاث صور: الانحياز إلى جانب اللفظ، والتعلق بالصورة الشعرية، والهرب من الأثر الفلسفي للتمييز بين الشعر والخطابة وللوقوف عند مشكلة العلاقة بين الشعر والصدق أو الشعر والكذب؛ ولست اعني أن هذه الصور الثلاث من رد الفل كانت دائماً منفصلة، ولا أنها بقيت على مر الزمن منفصلة عن الوقفة الاعتزالية النقدية، بل أصبح الناقد بعد فترة من الزمن انتقائياً يصنع من هذه التيارات - أو من بعضها - اتجاهه النقدي الخاص.

ولكن كيف يمكن ان نتهم الاعتزال بأنه وجه الأنظار إلى البحث

<<  <   >  >>