للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نفى الأصمعي وسائر الرواة من حيز النقد كان يحس أنهم قصروا عن الوعي بالمفارقات الكبرى التي جدت في حياة الشعر والناس: أما هو فإنه لا يستطيع ان يغض الطرف عن ذلك الصراع بين القديم والمحدث (أي عن التغير الذي طرا على أذواق جيلين) ولا يستطيع أن ينسى كيف انه يعاشر جيلاً يستمد ثقافته من كليلة ودمنة وعهد أردشير ويعرض عن الشعر العربي، بل ربما كان يعرض عن كل ما هو عربي ويؤمن بالثقافة المترجمة معتقداً أنها الزاد الوحيد للمثقف حينئذ، وهو على وعي شديد بان الشعر نفسه أصبح من نتاج غير العرب كما كان من نتاج العرب، وانه أصبح كذلك قسطاً مشتركاً بين الحاضرة والبادية، ولهذا كان موقف الجاحظ النقدي شيئاً جديداً بالنسبة لمن تقدمه، فهو في صراعه ضد الشعوبية يرى في الشعر مادة المعرفة، وهو في موقفه الثقافي الحضاري يحاول أن يرى من الزاوية العقلية - عن استطاع - ذلك التفاوت في الشعر بين العرق العربي وغير العربي وبين البادية والحاضرة، أي ان يلحظ اثر الجنس والبيئة. ولكن نقد الجاحظ - إذا استثنينا كتابه في نظم القرآن - لم يكن سوى مكمل لنشاطه الفكري عامة، أي كان جزءاً صغيراً في مبنى كبير متعدد الجنبات والزوايا، ولهذا جاءت أكثر آرائه النقدية نتفاً لا إشباع فيها.

غير ان هذا لا يمنعنا من أن نقول إن النقد الأدبي ولد في حضن الاعتزال (الجاحظ - بشر بن المعتمر - الناشئ الأكبر) والمتأثرين به، سواء أكان ذلك التأثر موجباً أو سالبيا (ابن قتيبة، ابن المعتز) ، وكان الاعتزال حينئذ يعني في أساسه الاحتكام إلى العقل، والعقل يهئ من جموح العاطفة والعصبية، ولهذا قضى بان الزمن لا يصلح أن يكون حماً على الشعر، مما أدى منذ البداية إلى أن يسلك النقد طريقاً وسطاً لا تفضيل فيها لقديم على محدث أو العكس، وغنما هنالك كما يقول العقل الاعتزالي: محض الحسن والقبح، وذلك هو أساس النقد الأدبي؛ والعقل هو المرجع الأخير في

<<  <   >  >>