كل هذه القضايا قد جرى الحديث عنها في سياق هذا البحث، بحسب ما اقتضاه المنهج المرسوم له. ولهذا فليس من الطبيعي أن أقف عندها جميعاً في هذه المقدمة، ويكفي أن أعرض لعدد قليل منها، مقدماً نماذج في طريقة دراستها ومعرفة إبعاد كل قضية منها على حدة.
١ - قضية الوحدة في القصيدة:
حين نظر النقاد في الموروث الشعري وجدوا القصيدة - أي الطويلة بشكل خاص - معرضاً لتفنن الشاعر، فهو قد يفتتحها بالغزل أو بالوقوف على الأطلال ويتحدث عن مناحي فتوته من حب للصيد وركوب للخيل وانتهاب للذات، ثم يمدح أو يعاتب أو يتحدث عن قضية صلح: وبعبارة أخرى كانت القصيدة تسمح بتعدد الموضوعات في داخلها. فلم يستطع النقاد ان يتنكروا للموروث حتى لنجد ابن طيفور يجعل تعدد الموضوعات التي أجاد الشاعر عرضها في قصيدته علة لاختيارها - وهو تعليل متأخر يشبه إيجاد التسويغ لذلك التعدد؛ ولهذا كان كل حديث للنقاد عن الوحدة إنما يتم من خلال التكثر أي كيف تمثل القصيدة وحدة رغم ذلك التكثر؛ فذهب ابن قتيبة إلى الأخذ بالوحدة النفسية عند المتلقي، أي قدرة الشاعر على جذب انتباه السامع أولاً ليضعه في جو نفسي قابل لتلقي ما يجيء بعد ذلك؛ وهذا لا يثبت للقصيدة نفسها وحدة إذ قد يكون الموضوعان فيها متباعدين حتى في الجو النفسي العام لدى الشاعر. ولكن ابن قتيبة كان يحس بان مثل هذا التعليل لا يحقق وحدة، فلهذا وقف عند وحدة داخلية تتمثل في التكافؤ بين الألفاظ والمعاني، ثم في الترابط بين كل بيت وما يليه، فإذا فقد الترابط المعنوي جاء الشعر متكلفاً. ثم كأن ابن طباطبا شعر أن كل هذا الذي قاله ابن قتيبة لا يحقق الوحدة التي يرغب فيها ولهذا ألح على مبدأين يكفلانها: أولهما مبدأ التناسب - وهذا المبدأ يحقق للقصيدة المستوى المطلوب من الجمال - والثاني هو التدرج المنطقي (وهو يحل الرتابط المعنوي عند ابن قتيبة) فالقصيدة أولاً كيان