للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن تتحقق في القصيدة، كذلك على الشاعر أن يكون صادقاً عن ذات نفسه وهو يكشف عما يختلج فيها، ويكون صادقاً في تجربته، صادقاً بالمعنى التاريخي حين يقص خبراً، صادقاً على مستوى أخلاقي فلا ينسب الجبن للشجاع ولا يسمي الكريم بخيلاً؛ ونحن اليوم نرى في صدق الشاعر نموذجاً حسناً لما نسميه الإخلاص أو القضاء على المسافة بينما يقوله وما يفعله، ولكن الصدق عندئذ طباطبا كلمة ذات دلالات مختلفة، وعلى هذا فإنها في القصيدة قد حدت من قوة الخيال كثيراً. ويقترب عبد القاهر في هذا الموقف من ابن طباطبا، فإنه يحب ما يشهد له العقل بالصحة، ولكنه كان أكثر تسامحاً من ابن طباطبا حين أقر بوجود التخييل أو التمويه، وانه هذا ضرب مقبول أيضاً وغن جاء في الدرجة الثانية.

وحين نظر قدامة إلى هذه القضية غير من زاوية النظر إذ جعل " الكذب " مرادفاً للغلو، ولما كان هو ممن يرون أن الغلو أفضل للشعر من الاقتصار على الحد الوسط فقد أيد من يقولون " أعذب الشعر أكذبه) ، ويختلف موقف المتأثرين مباشرة بكتاب أرسطو عن موقف قدامة، إذ عادوا أيضاً ينظرون إلى المسألة من زاوية جديدة، وهي إقامة المقارنة بين الأقاويل الشعرية وغيرها من الأقاويل كالبرهانية والخطابية، وبما أن الأقاويل الشعرية قائمة على " التخييل " فليس فيها ما في الأقاويل البرهانية من صدق، ولهذا قرن الفارابي بين الكذب والتخييل حين قال: " أما الأقاويل الشعرية فأنها كاذبة بالكل لا محالة " (١) ولكنه أضاف أن للأقاويل الشعرية قيمة العلم في البرهان، أي كأنه يقول أن الصدق ليس هو العنصر الهام فيها وغنما هو التخييل، او كما نقل عنه حازم " الغرض المقصود للأقاويل المخيلة ان ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما، من طلب له أو هرب عنه؟ سواء صدق بما يخيل إليه من ذلك أم لا، كان الأمر في


(١) فن الشعر: ١٥٠، ١٥١.

<<  <   >  >>