للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحقيقة على ما خيل له أو لم يكن " (١) . وعلى هذا سار ابن سينا أيضاً إلا انه زاد " وليس ينبغي في جميع المخيلات أن تكون كاذبة "، وحاول حازم أن يتجاوز الاثنين وهو يستشهد بآرائهما، فتدرج في معالجته لهذه المسالة في مرحلتين، في المرحلة الأولى: وازن بين حظ الخطابة والشعر من الصدق فنفى الصدق عن الخطابة نفياً تاماً، واثبت انه افضل للشعر، لأنه أقدر على التحريك من الكذب، ولم ينف الكذب عنه تماماً. وفي المرحلة الثانية نفى المشكلة كلها، وقال: إنها مشكلة لا علاقة لها بالشعر لأن الغاية من الشعر " التعجيب " وليس يسأل فيه عن الصدق والكذب، فهاتان صفتان تلحقان المفهومات فحسب، واتهم المتكلمين بأنهم حاولا الغض من شان الشعر فوصفوه بالكذب.

والحقيقة أن الذين وصفوا الشعر بالكذب - عن غير طريق قدامة - كانوا يحاولون ان يعيبوه من زاوية أخلاقية، لأنه يقوم على التمويه، ولان الشاعر فيه يتحدث عن أشياء لم تقع وكأنها وقعات، ويهجو فيتزيد، ويمدح فيتزيد وهكذا، وحاول بعضهم أن يتظرف بقوله: أن مما يدل على فضل الشعر أن الناس يرونه جميلاً وهم يعلمون انه كذب، ويقبلون الكذب فيه ولا يقبلونه في غيره، ولما عرض المرزوقي لهذه المشكلة، أضاف إلى الصدق والكذب مقولة ثالثة وهي " الاقتصاد ": " أحسن الشعر أقصده " ولم يرجح واحداً من هذه المواقف وإنما قال: إن لكل موقف أنصاره.

وهكذا نرى كيف تعددت زوايا النظر إلى هذه القضية، وكان حازم - رغم تردده - هو الذي حلها حين برهن على إنها قضية خارجة عن طبيعة الشعر، من حيث هو شعر.


(١) منهاج البلغاء: ٨٦.

<<  <   >  >>