للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الفصل التام بين الشعر والنثر

هذه التفرقة الصارمة " بالاستعارة والأوصاف والجريان على أساليب العرب " جعلت ابن خلدون - على عكس ما كانت الحال عليه لدى أمثال ابن طباطبا وابن الأثير - يضع حداً فاصلاً بين الشعر والنثر، مبايناً بذلك الاتجاه الذي جرى عليه الكتاب المتأخرون " وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع والتزام التقفيه وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن " (١) . ويعتقد ابن خلدون أن ضياع الحدود بين الشعر والنثر ليس صواباً من جهة البلاغة، إذ أن الأمور التي تناسب الأساليب الشعرية ليست مما يناسب الأساليب النثرية: " إذ الأساليب الشعرية تناسبها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب؛ والتزام التقفيه أيضاً من اللوذعية والتزيين، وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك كله ويباينه؟ وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه، وولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما تقصهم من بالأسجاع والألقاب البديعة، ويغفلون عما سوى ذلك " (٢) ؛ ويؤاخذ ابن خلدون كتاب المشرق وشعراءه على تضحيتهم أحياناً بالصحة اللغوية والنحوية إذا استقام لهم سجع أو جناس أو مطابقة، مظهرين بذلك شغفاً غير طبيعي بالمحسنات الخارجية على حساب المبنى والمعنى (٣) . ويبدو مما


(١) المقدمة: ١٢٨٦.
(٢) المقدمة: ١٢٨٧.
(٣) المصدر نفسه.

<<  <   >  >>