ومن الخطباء أبو القاسم ابن الحمامي وقد كان أوتي حظاً من الحكمة والبيان، ونصيباً وافراً من الخطب لكل شان، ورزق من حسن النثر في كلامه أمراً بديعاً ومن تأتيه لما يحدث من أحوال الناس سبباً صعباً منيعاً.
حدثني أبو الفرج أبان بن محمد بن أبان، أحد أمراء الثغر وحماته وفرسانه، وقد ذكر ذاكراً فضل أبي القاسم ابن الحمامي الخطيب وحسن فصاحته، فقال: كان بعض الأمراء نادى بغزاةً عقدها، فلما حضر المسجد الجامع للخروج منه على الرسم اتصل الشتاء، ودامت الأمطار والأنداء، فتثبط فريق من الناس عن السفر وعاين أبو القاسم وهو على المنبر دون ما يعهد من عدد من حضر، فخطب على رسمه ثم تلا وأومأ إلى الرعية يقول (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) وأومأ إلى السلطان الحاضر لعقد تلك الغزاة والخروج فيها، ثم قال (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) يومئ إليه وإليهم أخرى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله أجر المحسنين)(التوبة: ١٢٠) فتجددت نيات جماعة لموعظته في خطبته، وتجهزت طائفة كثيرة منهم للغزو بسرعةٍ من وقته الذي ذكر فيه وساعته، وتجلى لما برزوا إلى ظاهر البلد ما كان اتصل من المطر وشدته، ورزقوا في غزوتهم الظفر والقهر، والغلبة والنصر، وأوتوا بالأعلاج مصفدين وبالسبايا والغنائم مثقلين، فاعترف من تجددت نبته لأبي القاسم بفضله، وأن غزاته بحسن اختراعه في خطبته، وام كان الله تمم ذلك بعونه وقدرته.