للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذه حيلة جائزة مشروعة، بل واجبة إذا رؤي منها أنها تدفع الهزيمة وتحقق النصر على الأعداء ولما يترتب عليها من إعلاء كلمة الله، وتقوية المسلمين، وإذلال المشركين.

وهذه الحيلة من باب المعاريض في الفعل، كما أن قوله صلى الله عليه وسلم لطلائع المشركين وقد سألوا عن المسلمين: ممن أنتم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: " نحن من ماء " فتدافع القوم وقالوا: أحياء اليمن كثير، من باب المعاريض في القول، وكلاهما جائز، بل واجبان إذا ترتب عليهما دفع ظلم عن الإسلام والمسلمين، وحد الحيلة منطبق عليها تمام الانطباق، فإنها إظهار فعل لغير مقصود أو إظهار قوله لغير مقصوده، بحيث يتوهم الناظر أو السامع غير ما يقصده الفاعل أو القائل.

ثم إن ضروب الحيل والخداع في الحرب معروفة قديما ولا تكاد تنحصر، والآية وإن اقتصرت على التحرف والتحيز لفظا

لكنها تتسع لغيرهما معنى بطريق القياس والدلالة، ويؤيد ذلك ما ورد في السنة عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحرب خدعة " ١.

٢- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} ٢.

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى دين الله سرا وعلانية، بالحكمة والموعظة الحسنة، فما كان من كفار قريش- وقد توارثوا ما كان عليه آباؤهم من الأباطيل جيلا بعد جيل- إلا أن يتفننوا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذاء من آمنوا به، بكل وسيلة حتى أنهم ما كانوا يسمحون لهم بإقامة شعائر الله علانية، وأخيرا دبروا مكيدة لقتله صلى الله عليه وسلم، فأطلعه الله عليها، وأمره أن يهاجر إلى المدينة هو ومن آمن معه، حتى يستطيعوا إقامة شعائر الله، ودعوة الناس إلى دينه، من غير أن ينالهم من الظلم والاضطهاد ما كان يفعله معهم كفار قريش بمكة ففعل صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به، ومن هذا العهد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة فريضة على كل مسلم ليكون آمنا على نفسه، حرا في إقامة شعائر دينه، وليكون ظهيرا للنبي صلى الله عليه وسلم على الكفار، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها، فكان من أصحاب رسول


١ صحيح البخاري جـ٤ ص ٦٦، صحيح مسلم جـ٥ ص ١٤٣.
٢ الآيات: ٩٧،٩٨، ٩٩ من سورة النساء.

<<  <   >  >>