للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فها هنا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ:

الْأَوَّلُ١: ثُبُوتُ الصِّفَاتِ الْعُلْيَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سَوَاءً عَلِمَهَا الْعِبَادُ أَوْ لَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا بِالصِّفَةِ.

الثَّانِي: وُجُودُهَا فِي الْعِلْمِ وَالشُّعُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّهُ مَا فِي قُلُوبِ عَابِدِيهِ وَذَاكِرِيهِ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ, وَذِكْرِهِ، وَمَحَبَّتِهِ, وَجَلَالِهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ, وَهَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ أَصْلًا، بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا اخْتَصَّ بِهِ فِي ذَاتِهِ, وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قال من المفسرين: أن معناه: أهل السموات يُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَشْرَكَ [بِهِ مَنْ أَشْرَكَ]، وَعَصَاهُ مَنْ عَصَاهُ، وَجَحَدَ صِفَاتِهِ مَنْ جَحَدَهَا، فَأَهْلُ الْأَرْضِ مُعَظِّمُونَ لَهُ، مُجِلُّونَ، خَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ، مُسْتَكِينُونَ لِعِزَّتِهِ وَجَبَرُوتِهِ. قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [سورة الرُّومِ: ٢٦].

الثَّالِثُ: ذِكْرُ صِفَاتِهِ وَالْخَبَرُ عَنْهَا وَتَنْزِيهُهَا مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالتَّمْثِيلِ.

الرَّابِعُ: مَحَبَّةُ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَتَوْحِيدُهُ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ أَكْمَلَ كَانَ هَذَا الْحُبُّ وَالْإِخْلَاصُ [أَقْوَى].

فَعِبَارَاتُ السَّلَفِ كُلُّهَا تَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ, فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يُعَارِضُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [سورة الروم: ٢٧] وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: ١١]؟ وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَيَعْمَى عَنْ تَمَامِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: ١١]! حَتَّى أَفْضَى هَذَا الضلال ببعضهم، وهو أحمد بن أبي دؤاد الْقَاضِي، إِلَى أَنْ أَشَارَ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمَأْمُونِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، حَرَّفَ كَلَامَ اللَّهِ لِيَنْفِيَ٢ وَصْفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كَمَا قَالَ الضَّالُّ الْآخَرُ، جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ: وَدِدْتُ أَنِّي أَحُكُّ مِنَ الْمُصْحَفِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الْأَعْرَافِ: ٥٤] فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ أَنْ يُثَبِّتَنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة، بمنه وكرمه.


١ هذه الزيادة غير موجودة في الأصل ولا المطبوعة، ونظم الكلام يقتضيها.
٢ في المطبوعة: بنفي.

<<  <   >  >>