ثالثا: السبر والتقسيم: السبر معناه الاختبار، ومنه المسبار. والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة في الأصل، وترديد العلة بينها بأن يقال العلة إما هذا الوصف أو هذا الوصف. فإذا ورد نص بحكم شرعي في واقعة ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، سلك المجتهد للتوصل إلى معرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم: بأن يصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، وتصلح لأن تكون العلة وصفا منها، ويختبرها وصفا وصفاً على ضوء الشروط الواجب توافرها في العلة، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به، بواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف التي لا تصلح أن تكون علة، ويستبقي ما يصلح أن يكون علة، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأن هذا الوصف علة.
مثلا: ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة الشعير بالشعير:
ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، فالمجتهد يسلك لمعرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم بأن يقول: علة هذا الحكم إما كون الشعير مما يضبط قدره لأنه يضبط بالكيل، وإما كونه طعاما، وإما كونه مما يقتات به ويدخر؛ لكن كون طعاما لا يصلح علة، لأن التحريم ثابت في الذهب بالذهب وليس الذهب طعاما، وكونه قوتا لا يصلح أيضا لأن التحريم ثابت في الملح بالملح، وليس قوتا، فيتعين أن تكون العلة كونه مقدرا. وبناء على هذا؛ يقاس على ما ورد في النص كل المقدرات بالكيل أو الوزن، ففي مبادلتها بجنسها يحرم ربا الفضل والنسيئة.
وكذا ورد النص بتزويج الأب بنته البكر الصغيرة، ولم يدل نص ولا إجماع على علة ثبوت هذه الولاية، فالمجتهد يردد العلية بين كوناه بكرا وكونها صغيرة، ويستبعد البكارة لأن الشارع ما اعتبرها للتعليل بنوع من أنواع الاعتبار، ويستبقى الصغر لأن الشارع اعتبره علة للولاية على المال، وهي والولاية على التزويج من جنس واحد، فيحكم بأن العلة الصغر ويقيس على البكر الصغيرة الثيب الصغيرة بجامع الصغر.
وكذا ورد النص بتحريم شرب الخمر ولم يدل نص على علة الحكم، فالمجتهد يردد العلية بين كونه من العنب أو كونه سائلا أو كونه مسكرا، ويستبعد الوصف الأول لأنه قاصر، والثاني لأنه طردي غير مناسب، ويستبقي الثالث فيحكم بأنه علة.