يخبِّرنا المسواكُ عن طيبِ ثَغرها ... بما لم يخبِّرنا به قطُّ ذائقُ
ومثله لابن الرومي:
وفم بارد المذاقة بالظَّ ... نِّ ولم يُختبرْ ولمْ يُذقِ
وأخذه عمارة بن عقيل فقال:
وأشهدُ عند الله يومَ لقائِهِ ... بأنَّ ثنايا أُمِّ سعدٍ لطائمُ
وما ذاقَها غيري ولا أنا ذقتُها ... ولكنَّني بصحَّة الظَّنِّ عالمُ
وهذا معنى يطول ويتَّسع متى أردنا استغراقه ولا بدَّ من ذكره في مواضع إن شاء الله.
وقال ابن الدُّمَيْنة:
حيِّ المنازلَ من جَمَّاءَ إذ درستْ ... فأورثتْ قلبَك الأحزان والطَّربا
بيضاءُ تُسفرُ عن صلتٍ مدامعهُ ... لا تستبينُ به خالاً ولا نَدَبا
بانُوا فما راعَنا إلاَّ حمولتُهم ... وهاتفٍ بفراق الحيِّ قد نعَبا
ثمَّ اتَّبعنَ غَيوراً ذا مُعاسرةٍ ... إنْ هنَّ شاورْنَه في نيَّةٍ غضِبَا
أتبعتُهم دَوْسَراً رحب الفُروج تَرى ... في حدِّ مِرفقهِ عن زَورِهِ حَنَبا
يُصغي لراكبه في المَيس مجتنِحاً ... حتَّى إذا ما استوَى في غَرْزِه وَثَبا
أما قوله: " بيضاء تسفر " فهو بين ذي الرُّمَّة:
أرتْه يوم النَّقا خدّاً وسالفةً ... لا يستبينُ به خالٌ ولا ندبُ
وكذا قوله: " يصغي لراكبه " البيت، قال ذو الرُّمَّة:
تُصغي إذا شدَّها في الكُور جانِحة ... حتَّى إذا ما استوَى فر غرزها تثِبُ
وقال ابن الدُّمَيْنة:
ذكرتكِ والحدَّادُ يضربُ قيدَه ... على السَّاق من عَوجاءَ بادٍ كعوبُها
فقلتُ لراعي السِّجن والسِّجنُ جامعٌ ... قبائلَ من شتَّى وشتَّى ذنوبُها
ألا ليتَ شِعري هل أزورنَّ نسوةً ... مضرَّجةً بالزّعفران جيوبُها
وهل ألقَيَنْ بالسِّدر من أيمَن الحمَى ... مصحَّحةَ الأجسام مرضَى قلوبُها
بهنَّ من الدَّاء الَّذي أنا عارفٌ ... ولا يعرفُ الأدواءَ إلاَّ طبيبُها
عليهنَّ ماتَ القلبُ موتاً وجانبتْ ... بهنَّ نوًى غِبٌّ أُشِبَّ شعوبُها
وله:
وما نُطفةٌ زرقاءُ لا تكتم القذَى ... بعلياءَ يجري تحتَ نيقٍ حبابُها
يحومُ بها صادٍ يرَى دونه الرَّدَى ... مُحيطاً فيهوَى بَردَها ويهابُها
بأطيبَ مِن فيها ولا قرقَفِيَّةٌ ... يُشابُ بماءِ الزَّنجبيلِ رضابُها
وله:
عُقيليَّةٌ أمَّا مَلاثُ إزارِها ... فدِعصٌ وأمَّا خصرُها فبَتِيلُ
تربَّعُ أكناف الحمَى ومقيلُها ... بتَثليث من ظلِّ الأراكِ ظليلُ
أيا زينةَ الدُّنيا ويا منتهَى المُنَى ... ويا أملي هل لي إليكِ سبيلُ
فديتكِ أعدائي كثيرٌ وشُقَّتي ... بعيدٌ وأنصاري لديكِ قليلُ
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلّةٍ ... فأفنيتُ عِلاَّتي فكيف أقولُ
وله:
هلِ القلبُ عن ذكرَى أُميمةَ ذاهِلُ ... أجلْ حين يمشِي بي إلى القبرِ حامِلُ
أمُزمعةٌ بالبَين ليلَى ولم تمُتْ ... كأنَّك عمَّا قد أظلَّك غافِلُ
ستعلمُ إنْ زالتْ بهم غُربة النَّوى ... فزالوا بليلَى أنَّ عقلكَ زائِلُ
وإنَّك لا تخلُو من البثِّ والنَّوى ... إذا ما خلتْ ممَّن تحبُّ المنازِلُ
بنفسيَ من لا تقنع النَّفسُ بعدَه ... ومن لا تنالُ النُّجحَ فيه العواذِلُ
ومن لو رآني بين صَفَّين منهما ... صديقٌ ومستَولى العداوةِ باسِلُ
لَخذّل أعواني إذن ورأيتُهُ ... عليَّ مع القوم الَّذين أُقاتِلُ
ولو جئتُ أستسقِي شراباً وعنده ... عيونٌ رويَّاتٌ لهنَّ جداوِلُ
صدِيّاً لمَا قالتْ ليَ اشربْ ولا درتْ ... أفي العام أروَى أمْ قَصارِيَ قابِلُ
مثله:
فلو كانتْ تسوسُ البحرَ ليلَى ... صدرْنا عن مواردِه ظِماءا
ابن الدُّمَيْنة:
أيا أخوَيَّ بالمدينة أشرِفا ... بيَ الصَّمْدَ أنظُرْ نظرةً هل أرَى نجدَا
فما زادني الإشرافُ إلاَّ صبابةً ... ولا ازددتُ إلاَّ عن معارِفها بُعدا
فإنَّ بنجدٍ من برانيَ حبُّهُ ... فلم يتَّرِكْ منِّي عظاماً ولا جلدَا
فقال المدينيانِ أنتَ مكلَّفٌ ... بداعِي الهوَى لا تستطيع له ردَّا
أما قوله: " فما زادني الإشراف " البيت، فهو كثير في أشعار متغزّلي العرب يذكرون أنَّهم إذا علَو جبلاً وأشرفوا يفاعاً زاد شوقهم وكثر حنينهم، فمن ذلك قول بعضهم:
لا تشرفنَّ يفاعاً إنَّه طربٌ ... ولا تَغَنَّ إذا ما كنتَ مشتاقا
وقال آخر:
أمَّا اليفاعُ فإنِّي لستُ أشرفهُ ... خوفاً من الشَّوق لكنْ أسلكُ الوادِي
مثله:
وما زال داعي الشَّوق يُحدث دمعةً ... أيضاً ما علاَ يوماً من الأرضِ مَيْفَعا
آخر:
وما أُشرفُ الأيفاعَ إلاَّ تحدَّرتْ ... عَقابيلُ شوقٍ يمتَرينَ المَدامِعا
وقال ابن الدُّمَيْنة:
خليليَّ ليسَ الهجرُ أنْ تشحطَ النَّوى ... بإلفينِ دهراً ثمَّ يلتقيانِ
ولكنَّما الهِجرانَ أنْ تجمعَ النَّوى ... وتُمنعَ منِّي أن أرَى وترانِي
وكنَّا كريمَيْ معشرِ حُمَّ بيننا ... هوًى فحفظنَاهُ بحسنِ صيانِ
وقال زميلِي يوم سائِفة النَّقا ... وعَينايَ من فرط الهوَى تكفانِ
أمِن أجلِ دارٍ بين لَوْذانَ والنَّقا ... غداةَ اللِّوَى عيناكَ تبتدرانِ
فقلتُ ألا لا بلْ قذِيتُ وإنَّما ... قذَى العينِ ممَّا هيَّجَ الطَّلَلانِ
فيا طلحَتَي لَوْذانَ لا زالَ فيكُما ... لمن يبتَغي ظلَّيكُما فَنَانِ
وإن كنتُما قد هجتُما بارحَ الهوَى ... ودَنَّيتُما ما ليسَ بالمتدانيِ
خليليَّ إنِّي أرقتُ ونِمتُما ... فهلْ أنتما بالعِيس مدّلِجانِ
فقالا أنمتَ اللَّيلَ ثمَّ دعوتَنا ... ونحنُ غلامَا شُقَّةٍ رجِفانِ
فقُم حيث تهوَى إنَّنا حيث تشتَهي ... وإن رمتَ تعريساً بنا غَرِضانِ
خليليَّ ليسَ الرَّأيُ في صدرِ واحدٍ ... أشِيرا عليَّ اليومَ ما تَرَيانِ
أأركبُ صعبَ الأمرِ إنَّ ذَلولَه ... بنجرانَ قد أعيَا بكلِّ مكانِ
خليليَّ من أهل اليفاعِ شُفيتُما ... وعُوفيتُما من سيِّئِ الحَدثانِ
ألا يا احمِلاني باركَ اللهُ فيكُما ... إلى حاضرِ القرعاءِ ثمَّ ذَراني
أحقّاً عباد الله أنْ لستُ ماشياً ... بذي الأثْلِ حتَّى يُحشرَ الثَّقلانِ
ولا لاهياً يوماً إلى اللَّيلِ كلِّه ... ببيضٍ لطيفاتِ الخصورِ غوانِ
يُمَنِّينا حتَّى تَريغَ قلوبُنا ... ويخْلِطنَ مَطْلاً ظاهراً بليانِ
من النَّاسِ إنسانانِ دَيني عليهما ... ملِيَّانِ لو شاءا لقدْ قَضَيانيِ
خليليَّ أمَّا أُمّ عمرٍو فمنهما ... وأمَّا عن الأخرى فلا تَسَلاني
مَنوعانِ ظلاّمانِ لا ينصِفاني ... بدَلَّيْهما والطَّرفِ قد خَلَباني
أفي كلِّ يومٍ أنتَ رامٍ بلادَها ... بعَينينِ إنساناهما غرِقانِ
برَى الحبِّ جِسمي غيرَ جُثمانِ أعظُمٍ ... بلينَ وإنِّي ناطقٌ بلسانِ
أما قوله: " وقال زميلي " الأبيات الثلاثة فهو الَّذي اخترع هذا المعنى وقد أخذه بعده جماعة فكلٌّ عنده من لامه على البكاء بضرب من الضروب ونحن نذكر بعض ذلك، قال بشار:
وقالوا قد بكيتَ فقلتُ كلاَّ ... وقد يبكِي من الطَّرب الجَليدُ
ولكنِّي أصابَ سوادَ عَيني ... شبا عودٍ له طرفٌ حَديدُ
وقالوا ما لدمعِهما سواءً ... أكِلتا مقلَتَيك أصابَ عُودُ
فهذا ذكر أنَّ عوداً أصاب عينه فجرى دمعهما وهو معذور إذ كان أعمى مع أنَّهم يذكرون أنَّ الأعمى تجري من عينه الدُّموع، ويقال إن عمر بن الخطاب سأل متمّم بن نُويرة عن شدَّة حزنه على أخيه مالك فذكر أشياء ثمَّ قال: بكيته يا أمير المؤمنين حتَّى أسعدتْ عيني العوراء الصحيحة، ويقال إنَّ الَّذي سأله عن هذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. ولبعض العوران يستعظم بكاء عينه العوراء:
كفَى حزناً أنِّي ترفَّعتُ كيْ أرَى ... ذُرى قُنَّتَيْ دمخٍ فما تُريانِ
كأنَّهما والآلُ يجري عليهما ... من البُعد عَينا بُرقعٍ خَلقانِ
عذرتُكِ يا عَيني الصَّحيحةُ في البُكا ... فما لكِ يا عوراءُ في الهَمَلانِ
يجوز للمعارض أن يقول في هذا البيت: إنَّما خاطب الشاعر عينه العوراء فقال لها: أيش لك في البكاء وما رأيتِ شيئاً ويعذر عينه الصحيحة لأنَّها نظرت إلى قنَّتي دمخٍ اللَّتين ذكرهما وفيهما من يحبّ، وما الأمر عندنا إلاَّ أنَّه استعظم بكاء عينه العوراء وعجب من ذلك إذ ليس من شأنها البكاء ولا من عادتها الدموع فيما يقال، ويحكى أن بشَّاراً كان بلا أثر عين بوجه ولا سبب. وكان موضع العين في وجهه جبيناً فليت أنَّا علمنا في أيّ موضع بكى حتَّى لِيم فاحتجَّ بأنَّ عوداً طرَف عينه. وأخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال:
كم مِن صديقٍ لِي أُسا ... رِقُه البُكاءَ من الحياءِ
فإذا رآهُ يقولُ لي ... فأقول ما بي من بكاءِ
لكنْ ذهبتُ لأرتَدِي ... فطَرَفتُ عَيني بالرِّداءِ
مثله لابن أبي فنن:
إذا اغرورقتْ عَيني تعلَّلتُ بالقذَى ... لأُخفي الَّذي ألقَى وإنْ كانَ باديا
وأخذه آخر فقال:
إذا اغرورقتْ عيني تثاءبتُ كيْ يرَى ... رقيبُك أنَّ الدَّمعَ فعلُ التَّثاؤُبِ
فأما الَّذي أخذ هذا المعنى فجوَّده وزاد فيه التَّنفُّس الزيادة البيّنة فالقائل:
شيَّعتُهم فاسْترابُوني فقلتُ لهم ... إنِّي بُعثتُ مع الأجمالِ أحْدوها
قالوا فلِمْ تتنفَّسْ هكذا صُعُداً ... ومَا لعينيكَ ما ترقَا مآقيها
قلتُ التَّنفُّسُ من إدمانِ سَيركمُ ... والعينُ تسفحُ دمعاً من قذًى فيها
هذا أضاف إلى الدمع التنفس واحتج فيها حجةً عقليةً لا يمكن دفعا.
وأما قوله: " من النَّاس إنسانان " البيتين فإنَّ أبا كر محمد ابن يحيى الصُّولي حدَّثنا عن أبي العيناء قال: قال لي أبو المهنَّا مخارق المغنِّي وقد جرى ذكر الشعراء، قال: لعن الله الشِّعر فإنَّه يجرُّ المكروه على قومٍ ما قيل فيهم وينفع قوماً ما عرفوه، فسألته عن معنى قوله، قال: كنت بين يدي المتوكّل يوماً فغنَّيت: " من النَّاس إنسانان ديني عليهما " البيتين، فأطرق المتوكّل ساعةً يفكّر ثمَّ رفع رأسه وقال: أعد ويلك، فأعدت الصَّوت مرَّاتٍ وهو يقول: صدقت والله إنَّ دَيني عليهما، فلم يقف أحدٌ ممَّن حضر المجلس على ما أراد، واتصل الخبر بسليمان بن وهب وكان على بعض الدَّواوين فوجَّه إلى أحمد بن إسرائيل وكان على ديوان آخر: تأهَّب للنّكبة، فجاءه مسرعاً وقال: ما الخبر؟ فأنشده البيتين، فقال: ما أدري أيش تقول، مَن أمّ عمرو ومن الأخرى، ما أعرفهما، قال: أمَّا أُمُّ عمرٍو فأنت وأمَّا الأُخرى فأنا، وحدَّثه الحديث، فلم تمضِ إلاَّ مدَيدة حتَّى نُكبا.
قال ابن الدُّمَيْنة وزعم الزبير أنَّها لمزاحم بن عمرو السَّلوليّ:
أشاقتكَ الهوادجُ والخدورُ ... وبينُ الحيِّ والظُّعُنُ البكورُ
وبِيضٌ يرتَمينَ إذا التقينا ... قلوبَ القومِ أعينهنَّ حُورُ
هِجانُ اللَّونِ أبكارٌ وعونٌ ... عليهنَّ المجاسدُ والحريرُ
إذا اطَّردتْ فنونُ الرِّيحِ فيه ... توشَّى المسكُ يأرَجُ والعبيرُ