كان لتلك الصحبة ما ميز المجتمع المدني عن غيره، بما اكتسبه من علم وأدب وأخلاق، أخذها أصحاب ذلك المجتمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.
وطبيعي أن يستوطن المدينة من الصحابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يستوطن غيرها، وكان في مقدّمتهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، كما كانت المدينة مجتمع الصحابة في عصر الخلفاء الراشدين، خصوصاً أهل السبق والشورى الذين كان الخليفة يستبقيهم عنده عوناً له على تدبير شؤون الأمة الإسلامية، واستعانة بعلمهم، واسترشاداً بآرائهم ومشورتهم، وقد استمرّوا على ذلك إلى أن انتقل بعضهم إلى الأمصار الإسلامية بعد وفاة عمر -رضي الله عنهم أجمعين-، فلا عجب أن تكون المدينة أغنى من أي مصر آخر في الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان فيها أكثر أيام التشريع، كما كان فيها الخلفاء الراشدون، وكانت حاضرة الخلافة في أيام ثلاثة منهم تصدر منها الآراء في المسائل الفقهية، كما كان المدنيّون أكثر الناس تمكناً من مشاهدة التشريع العملي، فهم أعرف الناس بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه وصلاته، وما كما يحكم به، وما كان يفعله كبار الصحابة. وكان كل جيل يتلقى ذلك عمن قبله، فأخذ التابعون عن الصحابة وبعض التابعين عن بعض، فكان لتلك الثروة التي توارثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر في تثبيت قواعد الفقه بصفة عامة، وفي الفقه المدني بصفة خاصة.