ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا، فكلتا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت.
ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلَّت عليه الشواهد العقلية تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ماهو منه قبيح، هل ذلم ممتنع لذاته وأنه لا تتصور قدرته على ما هو قبيحو أو أنه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لا يفعل لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين:
والقولان في الانحراف من جني القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة المعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة أو تركه من العذاب والنقمة، والآخرون نزّهوه بناءً على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يُؤمر به ويُنهى عنه.
فمن نظر إلى القدر فقط، وعظَّم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميّز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشد والعي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه، فهم مخالفون أيضاً لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء، فيميّز بين ما يُؤكل ويشرب، وما لا يُؤكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية.
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد افترى