النبي صلى الله عليه وسلم:"أصدق الأسماء حارث وهمّام" ١، وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها، فلابد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضهم لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم له، وهدايتهم إياهم.
وفي هذا المقام تكّم الناس في الأفعال هل يعرف حسنها وقبحه بالعقل، أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينَّا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن يكون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه.
وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعلم إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم جمل ذلك.
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو مما دلّ قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: ٥٢] ، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}[سبأ: ٥٠] ، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}[الأنبياء: ٤٥] .
١ أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص ١٢٠، وأبو داود في سننه (٣/٣٩٣) .