للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيها. ومثل هذا من الكلام قولك: هو بخراسان أمير، وبمصر أمير، فالإمارة تجتمع له فيهما، وهو حال بأحدهما أو بغيرهما. هذا واضح لا يخفي.

فإن قال لنا: كيف النزول منه جل وعز؟ قلنا: لا نحكم على النزول منه بشيء، ولكنا نبين كيف النزول منا، وما تحتمله اللغة من هذا اللفظ، والله أعلم بما أراد.

والنزول منا يكون بمعنيين:

أحدهما: الانتقال من مكان إلى مكان، كنزولك من الجبل إلى الحضيض، ومن السطح إلى الدار.

والمعنى الآخر: إقبالك إلى الشيء بالإرادة والنية. كذلك الهبوط والارتفاع والبلوغ والمصير، وأشباه هذا من الكلام.

ومثال ذلك: إن سألك سائل عن محل قوم من الأعراب ـ وهو لا يريد المصير إليهم ـ فتقول له: إذا صرت إلى جبل كذا فانزل منه وخذ يمينًا، وإذا صرت إلى وادي كذا فاهبط فيه ثم خذ شمالًا، وإذا سرت إلى أرض كذا فَاعْلُ هضبة هناك حتى تشرف عليهم، وأنت لا تريد في شيء مما تقوله افعله ببدنك، إنما تريد افعله بنيتك وقصدك.

وقد يقول القائل: بلغت إلى الأحزاب تشتمهم، وصرت إلى الخلفاء تطعن عليهم، وجئت إلى العلم تزهد فيه، ونزلت عن معالي الأخلاق إلى الدناءة، ليس يراد في شيء من هذا انتقال الجسم، وإنما يراد به القصد إلى الشيء بالإرادة والعزم والنية، وكذلك قوله: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: ١٢٨] لا يراد به أنه معهم بالحلول؛ ولكن بالنصر والتوفيق والحياطة.

وكذلك قوله عز وجل:: "من تَقَرَّب مني شبرًا تَقَرَّبت منه ذِراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَةً "

قال: وثنا عن عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب بن مُنَبِّه؛ "أن موسى ـ عليه السلام ـ لما نودي من الشجرة {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: ١٢] أسرع الإجابة، وتابع التلبية، وما كان ذلك إلا استئناسًا منه بالصوت، وسكونًا إليه.

وقال: إني أسمع صوتك، وأحس حسك، ولا أدري مكانك، فأين أنت؟ قال:: أنا فوقك، وأمامك وخلفك، ومحيط بك وأقرب إليك من نفسك": يريد: إني أعلم بك منك؛ لأنك إذا نظرت إلى ما بين يديك خفي عليك ما وراءك، وإذا

<<  <   >  >>