سموت بطرفك إلى ماهو فوقك ذهب عنك علم ما تحتك، وأنا لا يخفي عليّ خافية منك في جميع أحوالك.
ونحو هذا قول رابعة العابدة العدوية قالت: شَغَلُوا قلوبهم عن الله بحُبِّ الدنيا، ولو تركوها لجالت في الملكوت، ثم رجعت إليهم بطرف الفائدة، ولم ترد أن أبدانهم وقلوبهم تجول في السماء بالحلول، ولكن تجول هناك بالفكر والقصد والإقبال.
وكذلك قول أبي ممندية الأعرابي قال: اطلعت في النار فرأيت الشعراء لهم كظيظ، يعني التقاء، وأنشد فيه:
جياد بها صرعى لهن كظيظ
ولو قال قائل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اطَّلَعْتُ في الجنة، فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ": إن اطلاعه فيها كان بالفكرة والإقبال كان حسنًا.
قلت: وتأويل المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك ـ بمعنى القصد والإرادة ونحو ذلك ـ هو قول طائفة. وتأولوا ذلك في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء}[البقرة: ٢٩] وجعل ابن الزاغوني وغيره ذلك: هو إحدى الروايتين عن أحمد.
والصواب: أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئًا منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث ـ أحمد بن حنبل، وغيره من أئمة السنة.
ولكن بعض الخائضين بالتأويلات الفاسدة يتشبث بألفاظ تنقل عن بعض الأئمة، وتكون إما غلطًا أو محرفة، كما تقدم من أن قول الأوزاعي وغيره من أئمة السلف في النزول [يفعل الله ما يشاء] فسره بعضهم أن النزول مفعول مخلوق، منفصل عن الله، وأنهم أرادوا بقولهم:[يفعل الله ما يشاء] هذا المعنى وليس الأمر كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه.
وآخرون ـ كالقاضي أبي يعلى في [إبطال التأويل]ـ قالوا: لم يرد الأوزاعي أن النزول من صفات الفعل، وإنما أراد بهذا الكلام بقوله:{وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء} وشبهوا ذلك بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ