للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الطيبة، فها هو يبيّن للمسلمين مَنْ يؤخذ حديثه ومن يرد، ويؤكد عدالة بعض الرواة وضبطهم، ويفضح آخرين ويكشف ضعفهم أو كذبهم، فيقال له: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله

عز وجل، فيرد قائلا بكل ثقة واطمئنان: "لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لي: لِمَ لَمْ تذب الكذب عن حديثي" (١) .

يبيّن يحيى بن سعيد القطان مَنْ يؤخذ حديثه من الرواة ومَنْ يُرَدُّ، فيقول: (٢) ينبغي في هذا الحديث غير خصلة، ينبغي لصاحب الحديث: أن يكون ثَبْتَ الأخذ، ويكون يفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعاهد ذلك.

ولذلك فإنه كان ينصح طلبة الحديث بتجنب الرواية عن المعتمر بن سليمان لأنه كان سيئ الحفظ، (٣) ، وبتجنب الرواية عن حنظلة السدوسي لاختلاطه. (٤) وحذرهم من الراوي الذي يقبل التلقين فقال: "إذا كان الشيخ إذا قبل فذاك بلاء، وإذا ثبت على شيء واحد فذاك ليس به بأس". (٥)

كما كان ينصح بتجنب أخذ الحديث عمن ينسب إلى الخير والزهد (٦) ،إذلا مجال هنا إلى حسن الظن، وهو الذي كان يقول: "آتَمِنُ


(١) الكفاية ص: ٣٧.
(٢) المصدر نفسه، ص: ١٦٥.
(٣) الكفاية ص: ٢٢٣.
(٤) المصدر نفسه ص: ١٣٥
(٥) المصدر نفسه ص: ١٤٩.
(٦) التمهيد ١/٥٢: وقد علق ابن عبد البر على كلام القطان فقال: هذا معناه والله أعلم أنه ينسب إلى الخير، وليس كما نسب إليه وظن به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا.
ومعنى كلام ابن عبد البر أن القول بأن من الوضاعين الزهاد لا يمكن قبوله لأنه لا يجتمع الزهد والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الجهابذة الذين حاربوا الوضع والوضاعين كانوا من كبار الزهاد كمالك وابن المبارك وغيرهما، ومع ذلك فإن عددا من الزهاد غلب عليهم الصلاح والزهد وغفلوا عن الحفظ والضبط والإتقان، قال ابن حبان في سلم بن ميمون الزاهد: "كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به".
وقال ابن يونس المصري في رشدين بن سَعْد بن مفلح المهري أبي الحجاج المصري (١٨٨ هـ) : كان رجلا صالحا لا يشك في صلاحه وفضله فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث. أساء فيه يحيى بن معين القول ولم يكن النسائي يرضاه ولا يخرج له. (تهذيب التهذيب ٣/٢٧٨) . ضعفه أيضا أبو زرعة وأبو داود وابن قانع والدارقطني والجوزجاني وأبو حاتم (الجرح والتعديل وميزان الاعتدال ٢/٤٩ وتهذيب التهذيب ٣/٢٧٨) .
عقد الخطيب في كتابه الكفاية بابا تحت عنوان: باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية وإن عرف بالصلاح والعبادة، ص ١٥٨.
وليس من المدفوع أن يكون مَنْ نُسب إلى الزهد من الضعفاء والمجروحين، وذلك من نتائج صرامة المحدثين علماء الجرح والتعديل وعدم محاباتهم في النقد، وقد جرّحوا أحمد بن محمد بن عمرو الكندي المروزي (٣٢٣ هـ) وكان ممّن ينافحون عن السنة ويردون على المبتدعة؛ قال الدارقطني: كان حافظا عذب اللسان مجردا في السنة والرد على المبتدعة، لكنه كان يضع الأحاديث (تاريخ بغداد ٥/٧٤) وقال ابن حبان: كان ممن يضع المتون ويقلب الأسانيد (كتاب المجروحين ١/١٥٦) وقال أيضا: على أنه كان من أصلب أهل زمانه في السنة وأنصرهم لها، وأذبّهم لحريمها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث ويقلبه، فلم يمنعنا ما علمنا من صلابته في السنة ونصرته لها أن نسكت عنه، إذ الدين لا يوجب إلا إظهار مثله فيمن وجد ... (كتاب المجروحين ١/١٦١-١٦٢) .

<<  <   >  >>