بين السيرة النبوية والمدينة المنورة صلات وشيجة، وعطاء متبادل، فقد احتضنت المدينة الشطر الأوفى من أحداث السيرة، ومنحت السيرة المدينة شخصية متميزة، تنفرد بها من بين سائر المدن، وأصبحت دراسة إحداهما تتصل بشكل أو بآخر بدراسة الأخرى، وتثريها في غير جانب.
فمنذ أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ شهد علم السيرة أبوابًا وفصولاً جديدة واسعة، تخط الأحداث فيها - لأكثر من عشر سنوات - سطورًا ناصعة، مليئة بالأحكام والتشريعات والعبر، تخاطب جيلاً اختاره الله سبحانه وتعالى لمعاصرة النبوة، وتحمُّل الرسالة، وتخاطب من ورائه البشرية كافة، على امتداد الزمان والمكان، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لتبني بهديها حياة الفرد والمجتمع والأمة.
لذلك؛ لا تكاد تجد معلمًا من معالم المدينة إلا وعند أهل السيرة النبوية خبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام يقترن به، وحسبنا أن نقول: إن ما اصطلح عليه العلماء بـ (العهد المدني) هو القسم الأكبر من السيرة النبوية كلها، والعصر الذهبي في تاريخ الأمة الإسلامية.
وعلى امتداد القرون بين عصرنا وعصر النبوة؛ ظهر كُتَّاب تتبعوا أحداث السيرة النبوية، فجمعوا رواياتها، ودونوها، أفردها بعضهم - كابن إسحاق والواقدي وابن سيد الناس - بمصنفات خاصة، نضج بفضلها علم السيرة النبوية الذي انفردت به الأمة الإسلامية دون الأمم الأخرى، وجعلها بعضهم الآخر - كالطبري وابن كثير وابن الأثير ... إلخ - أكبر باب في مؤلفه التاريخي الضخم.