للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع١، وكان تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم، ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو العاص يومئذ مشرك، وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها، وخلوا سبيل أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته وهي بالمدينة عند أبيها، وكان أذن لها أبو العاص حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس فقال: إنا ناسبنا وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير ولم يقتلوا منهم أحداً، وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه، فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عندهم من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما أن يرجعوا إلا بلادهم وأهليهم ولا يعترضوا لأحد من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً٢، وقدم أبو جندل على رسول


١ قصة أبي العاص هذه ذكرها ابن سعد في الطبقات ٢/٨٧، وابن جرير في تاريخه ٢/٨٣، وابن كثير في البداية والنهاية ٤/١٧٨، فذكر هؤلاء وغيرهم من أهل المغازي أنها كانت في سرية زيد بن حارثة إلى العيص سنة ست، وذكرها ابن القيم في سرية زيد ثم أورد رواية موسى بن عقبة هذه وعقب عليها بقوله: وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمن الهدنة، وقريش انبسطت عيراتها إلى الشام زمن الهدنة، وسياق الزهري للقصة بين ظاهر أنها كانت في زمن الهدنة.
قلت: يظهر من كلام ابن القيم رحمه الله ترجيح أن الذين أخذوا عير أبي العاص هم أبو بصير وأصحابه لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عند الحاكم أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة وأصحابه.
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم ... " وذكرت فداء زينب رضي الله عنها لأبي العاص، ثم قالت: "ولم يزل أبو العاص مقيماً على شركه حتى إذا كان قبيل فتح مكة، خرج بتجارة إلى الشام بأموال من أموال قريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلاً لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي وجه السرية للعير التي فيها أبو العاص، قافلة من الشام، وكانوا سبعين ومائة راكب، أميرهم زيد بن حارثة، وذلك في جمادى الأول سنة ست من الهجرة، فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال وأسروا أناساً من العير، فأعجزهم أبو العاص هرباً ... " المستدرك ٣/٢٣٦.
وهذا الإسناد حسن قد صرح ابن إسحاق فيه بالسماع، وقال الألباني عن هذا الحديث: وإسناده جيد، فقه السيرة للغزالي ٣٦٦ حاشية.
فالتحقيق أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة ومن معه لهذا الحديث، أما ما ذكره موسى بن عقبة فهو من مراسيل الزهري، ومراسيل الزهري كان يحيى بن سعيد لا يراها شيئاً، ويقول: هي بمنزلة الريح. تهذيب التهذيب ٩/٤٥١.
٢ هذا الفعل لم يثبت عن أبي جندل، لأن هذا الحديث من مرسلات الزهري، وهي ضعيفة، وعلى فرض ثبوته فهو محمول على عدم بلوغ النهي عن ذلك لأبي جندل، لأن قدومه للمدينة كان بعد هذه الحادثة، كما صرح بذلك هذا الحديث، وإنما شرعت الأحكام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

<<  <   >  >>