فصل: وههنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم عن الإيمان وهي: الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقر والغشاوة والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمى والصد والصرف والشد على القلب والضلال والإغفال والمرض وتقليب الأفئدة والحول بين المرء وقلبه وإزاغة القلوب والخذلان والإركاس والتثبيط والتزيين وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته وجعل الصدر ضيفا حرجا لا يقبل الإيمان وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان ولا تصغ إلى قول من يقول أن هذه مجازات واستعارات فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله وكان هذا القائل حقيقة الفعل عنده أن يكون من حديد والختم أن يكون بشمع أو طين والمرض أن يكون حمى بنافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محلها كانت بحسب تلك المحال فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن فلو قيل أنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه وكلاهما باطل فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب ثم قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه معظم العمى وأصله وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" وقوله: "إنما الماء من الماء" وقوله: "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" وقوله: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يعنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه" وقوله: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها فهكذا قوله لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقريب من هذا قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة وهكذا جميع ما نسب إليه ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده وهو الذي يحركها ويستعملها والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن فقد تقدم الختم قال الأزهري: "وأصله التغطية وختم البذر في الأرض إذ غطاه" قال أبو إسحاق: "معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء كما قال تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وكذلك قوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} " قلت الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة فهو تأثير لازم لا