بمعنى المصنوع المفعول فإنه الذي يمكن وقوع النظر والرؤية عليه وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلا كقوله:{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} وهو كثير ولم يرد لفظ المنشئ وأما العبد فيطلق عليه الإنشاء باعتبار آخر وهو شروعه في الفعل وابتداؤه له يقول أنشأ يحدثنا وأنشأ السير فهو منشأ لذلك وهذا إنشاء مقيد وإنشاء الرب إنشاء مطلق وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء أنشأه الله أي ابتدأ خلقه وأنشأ يفعل كذا ابتداء وفلان ينشئ الأحاديث أي يبتدئ وضعها والناشئ أول ما ينشأ من السحاب قال الجوهري: "وناشئة الليل أول ساعاته" قلت هذا قد قاله غير واحد من السلف إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل والصحيح أنها لا تختص بالساعة الأولى بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة كلما انقضت ساعة نشأت بعدها أخرى وقال أبو عبيدة: "ناشئة الليل ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة" قال الزجاج: "ناشئة الليل كلما نشأ منه أي حدث منه فهو ناشئة" قال ابن قتيبة: "هي آناء الليل وساعاته" مأخوذة من نشأت تنشأ نشأ أي ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء وأنشأها الله فنشأت والمعنى أن ساعات الليل الناشئة وقول صاحب الصحاح منقول عن كثير من السلف قال علي بن الحسين: "ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء" وهذا قول أنس وثابت وسعيد بن جبير والضحاك والحكم واختيار الكسائي قالوا: "ناشئة الليل أوله" وهؤلاء راعوا معنى الأولية في الناشة وفيها قول ثالث أن الليل كله ناشئة وهذا قول عكرمة وأبي مجلز ومجاهد والسدي وابن الزبير وابن عباس في رواية قال ابن أبي مليكة سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل فقالا: "الليل كله ناشئة" فهذه أقوال من جعل ناشئة الليل زمانا وأما من جعلها فعلا ينشأ بالليل فالناشئة عندهم اسم لما يفعل بالليل من القيام وهذا قول ابن مسعود ومعاوية بن قرة وجماعة قالوا: "ناشئة الليل قيام الليل" وقال آخرون منهم عائشة إنما يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم قالت عائشة: "ناشئة الليل القيام بعد النوم" وهذا قول ابن الأعرابي قال: "إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة" ومنه ناشئة الليل فعلى قول الأولين ناشئة الليل بمعنى من إضافة نوع إلى جنسه أي ناشئة منه وعلى قول هؤلاء إضافة بمعنى في أي طاعة ناشئة فيه والمقصود أن الإنشاء ابتداء سواء تقدمه مثله كالنشأة الثانية أو لم يتقدمه كالنشأة الأولى وأما الجعل فقد أطلق على الله سبحانه بمعنيين أحدهما: الإيجاد والخلق والثاني: التصيير فالأول يتعدى إلى مفعول كقوله وجعلنا الظلمات والنور والثاني: أكثر ما يتعدى إلى مفعولين كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وأطلق على العبد بالمعنى الثاني خاصة كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} وغالب ما يستعمل في حق العبد في جعل التسمية والاعتقاد حيث لا يكون له صنع في المجعول كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} وهذا يتعدى إلى واحد وهو جعل اعتقاد وتسمية وأما الفعل والعمل فإطلاقه على العبد كثير: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} : {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأطلقه على نفسه فعلا واسما فالأول كقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} والثاني كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في موضعين من كتابه أحدهما قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} والثاني قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فتأمل قوله كنا فاعلين في هذين الموضعين