زاغوا وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه عليها بالزيغ لا جعلها زائغة وكذلك قوله أنطقنا الله المراد جعل لنا آلة النطق وأضحك وأبكى جعل لهم آلة الضحك والبكاء قيل أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولا عقوبة لهم على زيغهم والرب تعالى يعاقب على السيئة بمثلها كما يثيب على الحسنة بمثلها فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول فهم زاغوا أولا فجازاهم الله بإزاغة فوق زيغهم، فإن قيل فالزيغ الأول من فعلهم وهو مخلوق لله فيهم على غير وجه الجزاء وإلا تسلسل الأمر، قيل بل الزيغ الأول وقع جزاء لهم وعقوبة على تركهم الإيمان والتصديق لما جاءهم من الهدى وهذا الترك أمر عدمي لا يستدعي فاعلا فإن تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم، فإن قيل فهذا الترك العدمي له سبب أو لا سبب له، قيل سببه عدم سبب ضده فبقي على العدم الأصلي ويشبه هذا قوله:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم فنسوا مصالحها أن يفعلوها وعيوبها أن يصلحوها وحظوظها أن يتناولوها ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها وهي لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته والإقبال عليه والإعراض عما سواه فأنساهم ذلك لما نسوه وأحدث لهم هذا النسيان نسيانا آخر وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه فذكرهم مصالح نفوسهم ففعلوها وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها وعرفهم حظوظها العالية فبادروا إليها فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان ومحبته وذكره وشكره فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصا وهذا يبين لك كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها وإذا كان قضاؤه عليها بالكفر والذنوب عدلا منه عليها فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل فهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه وله فيها قضاآن قضاء السبب وقضاء المسبب وكلاهما عدل فيه فإنه لما ترك ذكره وترك فعل ما يحبه عاقبه بنسيان نفسه فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بد بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها فهو عدل محض من الرب تعالى فعدل في العبد أولا وآخرا فهو محسن في عدله محبوب عليه محمود فيه يحمده من عدل فيه طوعا وكرها قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وستزيد هذا الموضع بسطا وبيانا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي إن شاء الله إذ المقصود ههنا بيان كون العبد فاعلا منفعلا والفرق في هذا الباب بين فعل وافعل وأن الله سبحانه أفعل والعبد فعل فهو الذي أقام العبد وأضله وأماته والعبد هو الذي قام وضل ومات وأما قولكم أن معنى أنطقه وأضحكه وأبكاه جعل له آلة ينطق بها ويضحك ويبكي فإعطاؤه الآلة وحدها لا يكفي في صدق الفعل بأنه أنطقه وأضحكه فلو أن رجلا صمت يوما كاملا فحلف حالف أن الله أنطقه لكان كاذبا حانثا ولو دعوت كافرين إلى الإسلام فنطق أحدهما بكلمة الشهادة وسكت الآخر لم يقل أحد قط إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق المتكلم وكلاهما قد أعطى آلة النطق ومتعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب الفعل لا الأفعال، فإن قيل هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته فتقولون أن الله أفعله وهو الذي فعل أو تخصون ذلك ببعض الأفعال فيظهر تناقضكم، قيل ههنا أمران أمر لغوي وأمر معنوي فأما اللغوي فإن ذلك لا يطرد في لغة