وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه فإجراؤها في طريق هلاكه بمنزلة من أعطى عبده فرسا يركبها وأوقفه على طريق نجاة وهلكة وقال أجرها في هذه الطريق فعدل بها إلى الطريق الأخرى وأجراها فيها فغلبته بقوة رأسها وشدة سيرها وعز عليه ردها عن جهة جريها وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها مع اختيارها وإرادتها فلو قلت كان ردها عن طريقها ممكنا له مقدورا أصبت وإن قلت لم يبق في هذه الحال بيده من أمرها شيء ولا هو متمكن أصبت بل قد حال بينه وبين ردها من يحول بين المرء وقلبه ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم وإذا أردت فهم هذا على الحقيقة فتأمل حال من عرضت له سورة بارعة الجمال فدعاه حسنها إلى محبتها فنهاه عقله وذكره ما في ذلك من التلف والعطب وأراه مصارع العشاق عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه فعاد يعاود النظر مرة مرة ويحث نفسه على التعلق وقوة الإرادة ويحرض على أسباب المحبة ويدني الوقود من النار حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ورمت بشررها وقد أحاطت به طلب الخلاص قال له القلب هيهات لات حين مناص وأنشده:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق
فكان الترك أولا مقدورا له لما لم يوجد السبب التام والإرادة الحازمة الموجبة للفعل فلما تمكن الداعي واستحكمت الإرادة قال المحب لعاذله:
يا عاذلي والأمر في يده ... هلا عذلت وفي يدي الأمر
فكان أول الأمر إرادة واختيار ومحبة ووسطه اضطرارا وآخره عقوبة وبلاء ومثل هذا برجل ركب فرسا لا يملكه راكبه ولا يتمكن من رده وأجراه في طريق ينتهي به إلى موضع هلاك فكان الأمر إليه قبل ركوبها فلما توسطت به الميدان خرج الأمر عن يده فلما وصلت به إلى الغاية حصل على الهلاك ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جني عليه في حال سكره لم يكن معذورا لتعاطيه السبب اختيارا فلم يكن معذورا بما ترتب عليه اضطرارا وهذا مأخذ من أوقع طلاقه من الأئمة ولهذا قالوا إذا زال عقله بسبب يعذر فيه لم يقع طلاقه فجعلوا وقوع الطلاق عليه من تمام عقوبته والذين لو يوقعوا الطلاق قولهم أفقه كما أفتى به عثمان بن عفان ولم يعلم له في الصحابة مخالف ورجع عليه الإمام أحمد واستقر عليه قوله فإن الطلاق ما كان عن وطر والسكران لا وطر له في الطلاق وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم عدم الطلاق في حال الغلق والسكر من الغلق كما أن الإكراه والجنون من الغلق بل قد نص الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داود على أن الغضب إغلاق وفسر به الإمام أحمد الحديث في رواية أبي طالب وهذا يدل على أن مذهبه أن طلاق الغضبان لا يقع وهذا هو الصحيح الذي يفتى به إذا كان الغضب شديدا قد أغلق عليه قصده فإنه يصير بمنزلة السكران والمكره بل قد يكونان أحسن حالا منه فإن العبد في حال شدة غضبه يصدر منه ما لا يصدر من السكران من الأقوال والأفعال وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذا الحال ولو أجابه لقضى إليه أجله وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود راحلته في الأرض المهلكة بعدما يأس منها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك ولم يجعله بذلك كافرا لأنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح فكمال