الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك وقيل لكل منهم أرجع بصر العقل فهل ترى من خلل:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها والأشياء من خلافها فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء وأكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة فأين آلام الحيوان من لذته وأين سقمه من صحته وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه وتعبه من راحته قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولن يغلب عسر يسرين وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب والعفو سبق العقوبة والنعمة تقدمت المحنة والخير في الصفات والأفعال والشر في المفعولات لا في الأفعال فأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها خيرات فإن ألم الحيوان لم يعدم بألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم أو تهيئة لقوة وصحة وكمال أو عوضا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى ولم يقدرهما عبثا ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الأخرى هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق فلا يكون المخلوق إلا فقيرا محتاجا ناقص العلم والقدرة فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيوانا ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة والله لم يجعلها كذلك وإنما جعلها دارا ممتزجا ألمها بلذتها وسرورها بأحزانها وغمومها وصحتها بسقمها حكمة منه بالغة.
فصل: ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان كانت كمالا للحيوان خصوصا لنوع الإنسان فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه وإنما ابتلاه ليعافيه وإنما أماته ليحييه فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب كماله طورا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بد منها وكماله موقوف على تلك الأسباب ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله فيفرض أمورا ممتنعة ويقدرها تقديرا ذهنيا ويحسب أنها أكمل من الممكن الواقع ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده وقامت بمقتضى هذين الاعترافين كان نصيبها من الرحمة أوفر والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد وختم أمر هذا العالم بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأنزل كتابه بالحمد وشرع دينه بالحمد وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد فحمده من لوازم ذاته إذ يستحيل أن يكون إلا محمودا فالحمد سبب الخلق وغايته الحمد أوجبه وللحمد وجد فحمده واسع