للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وإننا لم نعمل سوأ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس يصبك الأذى قال: بلى قال: فذلك مما تجزون به" وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من بلي بشيء من هذه القاذورات فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن عوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده" وفي الحديث: "الحدود كفارات لأهلها" وفي الصحيحين من حديث عبادة: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" وقال: "لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" وفي حديث آخر: "إن المؤمن إذا مرض خرج مثل البردة في صفائها ولونها" وفي الحديث الآخر: "إن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد" وفي حديث آخر: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم" ومن أسماء الحمى مكفرة الذنوب وفي الحديث الصحيح: "يقول الله عز وجل يوم القيامة عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده" وهذا أبلغ من قوله في الإطعام والإسقاء لوجدت ذلك عندي فهو سبحانه عند المبتلى بالمرض رحمة منه له وخيرا وقربا منه لكسر قلبه بالمرض فإنه عند المنكسرة قلوبهم وهذا أكبر من أن يذكر ورب الدنيا والآخرة واحد وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة بل ظهور رحمته في الآخرة أعظم فعذاب المؤمنين بالنار في الآخرة هو من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يهذبوا وينقوا وقد علم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدرا ووقتا بحسب ذنوبهم وأنهم لا يخرجون منها جملة واحدة بل شيئا بعد شيء حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجا وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتا عظيما فالمنافقون في دركها الأسفل وأبو طالب أخف أهلها عذابا في ضحضاح من بئر يغلي منه دماغه وآل فرعون في أشد العذاب قالوا فإذا كان العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم فكيف في الدار التي يظهر فيها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض وقد قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فأخبر أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} وأنت تجد تحت هذه الكلمات أن تعذيبه لكم لا يزيد في ملكه ولا ينتفع به ولا هو سدى خال من حكمة ومصلحة وأنكم إذا بدلتم الشكر والإيمان بالكفر كان عذابكم منكم وكان كفركم هو الذي عذبتم به وإلا فأي شيء يلحقه من عذابكم وأي نفع يصل إليه منه قالوا وحينئذ فالحكمة تقتضي أن النفوس الشريرة لا بد لها من عذاب يهذبها بحسب وقوعها كما دل على ذلك السمع والعقل وذلك يوجب الانتهاء لا الدوام قالوا والله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا وإنما خلقه ليرحمه لا ليعذبه وإنما اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له فرحمته له سبقت غضبه وموجب الرحمة فيما سابق على موجب الغضب وغالب له وتعذيبه ليس

<<  <   >  >>