للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك ما فعله بآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم من الأمور التي هي في الظاهر محن وابتلاء وهي في الباطن طرق خفية أدخلهم بها إلى غاية كمالهم وسعادتهم فتأمل قصة موسى وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون للأطفال ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدر هلاكه على يديه وهو يذبح الأطفال في طلبه فرماه في بيته وحجره على فراشه ثم قدر له سببا أخرجه من مصر وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه ثم قدر له سببا أوصله به إلى النكاح والغنى بعد العزوبة والعيلة ثم ساقه إلى بلد عدوه فأقام عليه به حجته ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون وهذا كله مما يبين أنه سبحانه يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب الحميدة والحكم العظيمة التي لا تدركها عقول الخلق مع ما في ضمنها من الرحمة التامة والنعمة السابغة والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته فكم في أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها وإخراجه بسببها من الجنة من حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها وكذلك ما قدره لسيد ولده من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب وكذلك فعله بعباده وأوليائه يوصل إليهم نعمة ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي لا يهتدون إلى معرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها وهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ويحصر اللسان عن التعبير عنه وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم وأمته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وبأسمائه وصفاته وهو سبحانه قد أحاط علما بذلك كله قبل السماوات والأرض وقدره وكتبه عنده ثم يأمر ملائكته بكتابه ذلك من الكتاب الأول قبل خلق العبد فيطابق حاله وشأنه لما كتب في الكتاب ولما كتبته الملائكة لا يزيد شيئا ولا ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته عنده كان في علمه قبل أن يكتبه ثم كتبه كما في علمه ثم وجد كما كتبه قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} والله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم وما هم عاملون وما هم إليه صائرون ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه إعذارا إليهم وإقامة للحجة عليهم لئلا يقولوا كيف تعاقبنا على علمك فينا وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زين لهم من الدنيا وبما ركب فيهم من الشهوات فذلك ابتلاه بشرعه وأمره وهذا ابتلاء بقضائه وقدره وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فأخبر في هذه الآية أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه وهذا من الحق الذي خلق به خلقه وأخبر في الآية التي قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضا فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه وقدر عليهم الموت الذي ينالوا به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب وإن خبر في الآية الأولى أنه زين لهم ما على الأرض ليبتليهم به أيهم يؤثر ما عنده وابتلى بعضهم ببعض

<<  <   >  >>