وجعل بعض الحيوانات يتمها من قبل أمهاتها وبعضها يتمها من قبل آبائها وبعضها لا يلتمس الولد وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكره وبعضها ليس ذلك عنده شيئا وبعضها يؤثر على نفسه وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدا يدنو منه وبعضها يحب السفاد ويكثر منه وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة وبعضها يقتصر على أنثاه وبعضها لا يقف على أنثى ولو كانت أمه أو أخته وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها وبعضها لا ترد يد لامس وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار وبعضها لا يأكل إلا الطيب وبعضها لا يأكل إلا الخبائث وبعضها يجمع بين الأمرين وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها وبعضها يؤذي من لا يؤذيها وبعضها حقود لا تنسى الإساءة وبعضها لا يذكرها البتة وبعضها لا يغضب وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها مع الطول وبعضها لا يقبل ذلك بحال وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى وأن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.
فصل: فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع وهو الكلام على الهداية العامة التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال مجاهد: "أعطى كل شيء خلقه لم يعط الإنسان خلق البهائم ولا البهائم خلق الإنسان" وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى قال عطية ومقاتل: "أعطى كل شيء صورته" وقال الحسن وقتادة: "أعطى كل شيء صلاحه" والمعنى أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له ثم هداه لما خلق له وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين فيكون نظير قوله: {قَدَّرَ فَهَدَى} وقال الكلبي والسدي: "أعطى الرجل المرأة والبعير الناقة والذكر الأنثى من جنسه" ولفظ السدي: "أعطى الذكر الأنثى مثل خلقه ثم هدى إلى الجماع" وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء قال الفراء: "أعطى الذكر من الناس امرأة مثله والشاة شاة والثور بقرة ثم ألهم الذكر كيف يأتيها" قال أبو إسحاق: "وهذا التفسير جائز لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله فألهمه الله ذلك وهداه إليه" قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه وقوله أعطى كل شيء يأبى هذا التفسير فإن حمل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع لا وجه له وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن ومن لم يتزوج من بني آدم ومن لم يسافد من الحيوان وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقا له وأين نظير هذا في القرآن