للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبينه أُصول فاسدة أصلوها وقواعد باطلة أسسوها، من تعطيل بعض صفات كماله كم عطل الفريقان حقيقة محبته: عند الجبرية مشيئته وإرادته، ومحبة العباد له إرادتهم لما يخلقه من النعيم فى دار الثوب، فالمحبة عندهم إنما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته.

وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية: أمره ونهيه، ومحبة العباد له محبتهم لثوابه المنفصل. وأصَّل الفريقان أنه لا تقوم بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأَجلها ثم اختلفوا فقالت الجبرية: لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلاً. وتكايست القدرية بعض التكايس فقالت: فعل لغاية وحكمة لا ترجع إِليه ولا تقوم به ولا يعود إليه منها وصف.

وأصَّل الفريقان أيضاً أنه لا يقوم بذاته فعل البتة، بل فعله عين مفعوله، فعطلوا أَفعاله القائمة به وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة التى لا تقوم به، فلم يقم به عندهم فعل البتة. كما عطل غلاة الجهمية صفاته فلم يثبتوا له صفة تقوم به وإن تناقضوا، وكما عطلت "السينائية" أَتباع ابن سينا ذاته فلم يثبتوا له ذاتاً زائدة على وجود مجرد لا يقارن ماهية ولا حقيقة، وأَصلت الجبرية أنه تعالى لا ينزه عن فعل مقدور يكون قبيحاً بالنسبة إليه، بل كل مقدور ممكن فهو جائز عليه، وإن علم عدم فعله فبالسمع وإلا فالعقل يقضى بجوازه عليه فلا ينزه عن ممكن مقدور إلا ما دل عليه بالسمع فيكون تنزيهه عنه لا لقبحه فى نفسه بل لأن وقوعه يتضمن الخلق فى خبره وخبر رسوله ووقع الأمر على خلاف علمه ومشيئته، فهذا حقيقة التنزيه عند القوم.

وأَصلت القدَرية أن ما يحسن من عباده يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، مع تناقضهم فى ذلك غاية التناقض. فاقتضت هذه الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعاً ولوازم كثيرة، منها مخالف لصريح العقل ولسليم الفطرة كما هو مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله، فجعل أرباب هذه القواعد والأُصول قواعدهم وأُصولهم محكمة، وما جاءَ به الرسول متشابهاً، ثم أَصلوا أصلاً فى رد هذا المتشابه إلِى المحكم وقالوا: الواجب فيما خالف هذه القواطع العقلية بزعمهم من الظواهر الشرعية أحد أَمرين: إما يخرجها على ما يعلم العقلاء أن المتكلم لم يرده بكلامه من المجازات البعيدة والألغاز المعقدة ووحشى اللغات والمعانى المهجورة التى لا يعرف أحد من العرب عبر عنها بهذه العبارة ولا تحتملها لغة القوم البتة، وإنما هى محامل أنشئوها هم ثم قالوا: نحمل اللفظ عليها، فأنشؤوا محامل من تلقاءِ أنفسهم وحكموا على الله

<<  <   >  >>