للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالتفرق شهود المريد لإرادته [لمرادته] ولعبوديته ولمعبوده ولمحبته ولمحبوبه فلم قلتم: إن هذا التفرق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال، وهل تتم العبودية إلا بهذا؟ فإن من شهد عبوديته وغاب بها عن معبوده كان محبوباً، ومن شهد المعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه بما أَمره به كان ناقص العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته، فإِنها [عين] حقه ومراده ومحبوبه من عبده، فهل يكون شهود العبد لحق محبوبه ومراده منه وأَنه قائم به ممتثل له نقصاً، ويكون غيبته عن ذلك وإعرضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالاً، وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أَن يكون معذوراً بضيق قلبه عن شهود هذا، وهذا إما لضعف المحل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه، [فأما] أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلا.

وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة الله عليه فيها وتوفيقه لها وجعله محلاً وآلة [لها]- وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهداً له، فانياً عن شهود غيره فى عبوديته- من مقام من لا يتسع لهذا وهذا؟ وتأَمل حال أَكمل الخلق وأَفضلهم وأشدهم حباً لله [صلى الله عليه وسلم] كيف كان فى عبادته جامعاً بين الشهودين، حتى كان لا يغيب عن أَحوال المأْمومين فضلاً عن شهود عبادته، فكان يراعى أحوالهم وهو فى ذلك المقام بين يدى ربه سبحانه، فالكلمة من أُمته [عن] منهاجه وطريقته [فى ذلك] صلى الله عليه وسلم، فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كل ذى حق حقه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.

وإِن أَردتم بالتفرق شتات القلب فى شعاب الحظوظ وأَودية الهوى، فهذه الإِرادة لا تستلزم شيئاً من ذلك، بل هى جمعية القلب على المحبوب وعلى محابه ومراداته، ومثل هذا التفرق هو عين البقاءِ ومحض العبودية ونفس الكمال، وما عداه فمحض حظ العبد لا حق محبوبه.

الوجه السادس: أن قوله: "إن الإرادة رجوع إلى النفس، وإن إِرادة العبد عين حظه" كلام فيه إجمال وتفصيل، فيقال: ما تريدون بقولكم: "إن الإِرادة رجوع إلى النفس"؟ أَتريدون أنها رجوع عن إرادة الرب وإرادة محابه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنها رجوع إلى إرادة النفس لربها ولمرضاته؟ فإِن أَردتم الأول علم أن هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التى نتكلم فيها.

وإن أردتم المعنى الثانى فهو عين الكمال، وإنما النقصان خلافه.

<<  <   >  >>