للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوجه السابع: أن قولكم: "إن هذه الإرادة عين حظ العبد" قلنا: نعم وهى أكبر حظ له وأجله وأعظمه، وهل للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده إِلهه ومعبوده ومحبوبه ومراده؟ فهذا هو الحظ الأَوفر والسعادة العظمى، ولكن لم قلتم: "إن اشتغال العبد بهذا الحظ نقص [فى] حقه"، وهل فوق هذا كمال فيطلبه العبد؟ ثم يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغالاً بحظه أيضاً، فيكون ناقصاً، فأَين الكمال؟ فإِن قلتم: فى تركه حظوظه كلها، قيل لكم: وتركه هذا الحظ أيضاً هو من حظوظه، فإِنه [لا] يبقى معطلاً فارغاً خاو من الإرادة أصلاً، بل لا بد له من إرادة ومراد، وكل إِرادة [عندكم] رجوع إلى الحظ، فأَى [شيء إشتغل] به وبإِرادته كان وقوفاً عن حظه، فيالله العجب متى يكون عبداً محضاً خالصاً لربه؟

يوضح هذا الوجه الثامن: أن الحى لا ينفك عن الإرادة ما دام شاعراً بنفسه، وإِنما ينفك عنها إِذا غاب عنه شعوره بعارض من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة فدعوى أَن الكمال فى التجرد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعاً وحساً، بل الكمال فى التجرد عن الإِرادة التى تزحم مراد المحبوب، لا عن الإرادة التى توافق مراده.

الوجه التاسع: قوله: "الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد ... إلخ" فيقال: هذا على نوعين، أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذى يجرى عليه بغير اختياره كالفقر والغنى والصحة والمرض والحياة والموت وغير ذلك، فهذا، لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إِرادته، ووقوفه مع ما يراد به لا يكون له إِرادة تزاحم إرادة الله منه، كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أَنا أُحب الموت للقاءِ الله، وقال الآخر: أُحب البقاءَ لطاعته وعبادته، فقال الثالث: غلطتما، ولكن أَنا أُحب من ذلك ما يحب، فإن كان يحب إماتتى أَحببت الموت، وإن كان يحب حياتى أحببت الحياة، فأَنا أُحب ما يحبه من الحياة والموت.

فهذا أَكمل [منهما] وأصح حالاً فيما يراد بالعبد والنوع الثانى ما يراد من العبد من الأَوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا فى إرادته، وإِن فرقته فهو مجموع فى تفرقته متفرق فى جمعيته، وهذا حال [الكُمّل] من الناس: متفرق الإِرادة فى الأَمر، مجتمع على الأَمر- فهو مجموع عليه متفرق فيه- ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين، وإنما غايتها أن تكون هنا إرادتان: إحداهما إرادة واحدة للمراد

<<  <   >  >>