للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إِلا مع تمام الإِرادة؟ وإِنما الذى يفرض له النقص من الإِرادة نوعان: أَحدهما إِرادة مصدرها طلب الحظ، والثانى اختياره فيما يفعل به بغير اختياره.

فعن هاتين الإِرادتين ينبغى الفناء، وفيهما يكون النقص، فالكمال ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقه فى الأُولى، وإِلى مجارى أَقداره وحكمه فى الثانية، فيكون فى الأُولى حياً فعالاً منازعاً لقواطعه عن مراد محبوبه، وفى الثانية كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ.

وبهذا التفصيل ينكشف سر هذه المسأَلة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظ النفس. والله الموفق للصواب.

فصل

المثال الثانى: الزهد. قال أَبو العباس [رحمه الله] : "هو للعوام أيضاً، لأَنه حبس النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعى الهوى، وترك ما لا يغنى من الأشياء وهذا نقص فى طريق الخاصة، لأَنه تعظيم للدنيا واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلق الباطن بها والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت فى منازعة نفسك [وشهود] جنسك وبقائك معك، ألا ترى إلى من أَعطاه الله الدنيا بحذافيرها، كيف قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة ص: ٣٩] ، وذلك حيث عافى باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق بها.

فالزهد صرف الرغبة إِليه وتعلق الهمة به والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليتولى هو حسم هذه الأَسباب عنك. كما قيل: إِن بعض المريدين سأَل بعض المشايخ فقال: أَيها الشيخ، بأَى شيء تدفع إبليس إذا قصدك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إِنى لا أَعرف إِبليس فأَحتاج إلى دفعه، نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا ما دونه. وكما قال:

تسترت عن دهرى بظل جناحه ... فعينى ترى دهرى وليس يراني

فلو تسأَل الأَيام ما اسمى ما درت ... وأَين مكانى ما عرفن مكاني

فيقال: الكلام على هذا من وجوه:

إحداها: أَن جعل الزهد للعوام لما ذكره إِنما يتم إِذا كان الزهد ملزوماً لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعى الشهوة والهوى، وحينئذ فيكون قلبه مشغولاً بتلك الدواعى والجواذب ونفسه تطالبه بها وزهده يأْمره باجتنابها. ولا ريب أن فوق هذا مقاماً أعلى منه، وهو طمأْنينة نفسه وسكونها إِلى محبوبها وانجذاب دواعيها إِلى محابه ومرضاته، وهذا للخواص من المؤمنين.

ولكن هذه المنازعة غير

<<  <   >  >>