للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لازمة للزهد، وإِن كان لا بد منها فى حكم الطبيعة لتحقق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقق ترك العبد حظه وهواه لربه إيثاراً له على هواه ونفسه.

الثانى: أَنه لو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من لوازم الزهد لم يكن فيها نقص ولا علة، فإِنها من لوازم الطبيعة وأَحكام الجبلّة، وهى كالجوع والعطش والأَلم والتعب، فحبس النفس عن إجابة دواعيها إيثاراً لله ومرضاته عليها لا يكون نقصاً ولا مستلزماً لنقص.

وقد اختلف أرباب السلوك [وأهل الطريق] هنا فى هذه المسألة، وهى أَيهما أفضل: من له داعية وشهوة وهو يحبسهما لله ولا يطيعهما حباً له وحياءً [منه] وخوفاً، أو من لا داعية له تنازعه بل نفسه خالية من تلك الدواعى والشهوة، وقد اطمأنت إلى ربها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإِرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبه؟ فرجحت طائفة الأول وقالت: هذا يدل على قوة تعلقه وشدة محبته، فهو يعاصى دواعى الطبع والشهوة ويقهرها بسلطان محبته وإِرادته وخوفه من الله، وهذا يدل على تمكنه من نفسه وتمكن حاله مع الله وغلبة داعى الحق عنده على داعى الطبع والنفس.

قالوا: وأيضاً فله مزيد فى حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعى الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوه الظاهر.

قالوا: والذوق والوجد يشهد لمزيده من الحب والأُنس والسرور والفرح بربه عند إيثاره على دواعى الهوى والنفس، والمطمئن الذى ليس فيه هذا الداعى ليس له مزيد من هذه الجهة، وإِن كان مزيده من جهة أُخرى فهى مشتركة بينهما، ويختص هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة.

قالوا: وأيضاً فهذا مبتلى بهذه الدواعى والإِرادات، [وذاك] معافى منها.

وقد جرت سُنَّة الله فى المؤمنين من عباده أَن يبتليهم على حسب إِيمانهم، فمن ازداد إِيمانه زيد فى بلائه كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإِن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاءُ، وإِن كان فى دينه رقة خفف عنه البلاءُ".

والمراد بالدين هنا: الإيمان الذى يثبت عند نوازل البلاءِ، فإن المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء. قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعى النفس والطبع من أَشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه الصدِّيقون.

وأما البلاء الذى يجرى على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر لا سيما إِذا علم أَنه

<<  <   >  >>