للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا معول له إِلا الصبر، فإِنه إِن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً.

ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصديق [صلى الله عليه وسلم] بما فعل به إِخوته من الأَذى والإِلقاءِ فى الجب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وابتلائه بمراودة المرأة [له] وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهى الداعية [له] إلى ذلك، فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاءِ، فإِن الشباب داع إلى الشهوة والشاب قد يستحى من أَهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإِذا صار فى دار الغربة زال ذلك الاستحياءُ والاحتشام، وإِذا كان عزباً كان أشد لشهوته، وإِذا كانت المرأة هى الطالبة كان أشد وإذا كانت جميلة كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى فى الشهوة، فإن كان ذلك فى دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإِن استوثقت بتغليق الأَبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضاً للطلب، فإِن كان الرجل مملوكها وهى كالحاكمة عليه الآمرة الناهية [له] كان أَبلغ فى الداعى، فإِذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأَ قلبها من حبه، [فهذا] الابتلاء الذى صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين.

ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأَول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل بذبح ولده، إِذ كلاهما ابتلاءُ بمخالفة الطبع ودواعى النفس والشهوة ومفارقة حكم [الطبع] ، وهذا بخلاف البلوى التى أصابت ذا النون. والتى أصابت أيوب [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين] .

قالوا: وأيضاً فإن هذه هى النكتة التى من أجلها كان صالح البشر أفضل من الملائكة لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب [و] دواعى [النفوس] والشهوات البشرية، فهى صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، [و] هى كالنفس للحى، وأَما عبادات البشر فمع منازعات النفوس وقمع الشهوات ومخالفة دواعى الطبع، فكانت أكمل، ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعى والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خلقت له وأَعانه الله على دفعها وقهرها وعصيانها كان أَكمل وأفضل.

قالوا: وأيضاً فإن حقيقة المحبة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه.

قالوا: وكيف يصح الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب.

قالوا: وليس العجب من قلب خال عن الشهوات والإِرادات قد ماتت دواعى طبعه وشهوته إذا عكف على محبوبه ومعبوده واطمأن إليه واجتمعت همته، [عليه] وإِنما العجب من قلب قد ابتلى [بما ابتلى] به من

<<  <   >  >>