للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الهوى والشهوة ودواعى الطبيعة مع قوة سلطانها وغلبتها وضعفه وكثرة الجيوش التى تغير على قلبه كل وقت إذا آثر ربه ومرضاته على هواه وشهوته ودواعى طبعه، فهو هارب إلى ربه من بين تلك الجيوش، وعاكف عليه فى تلك الزعازع والأَهوية التى تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة يتحمل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمله الجبال الراسيات.

قالوا: وأيضاً فنهى النفس عن الهوى عبودية خاصة لها تأْثير خاص، وإنما يحصل إذا كان ثم ما ينهى عنه النفس.

قالوا: وأيضاً فالهوى عدو الإنسان، فإذا قهر عدوه وصار تحت قبضته وسلطانه كان أَقوى وأكمل ممن لا عدو له يقهره.

قالوا: ولهذا كان حالُ النبى صلى الله عليه وسلم فى قهره قرينه حتى انقاد وأَسلم له فلم يكن يأْمره إلا بخير أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفر منه وكان إذا سلك فجا سلك غير فجه.

وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفر منه، ومع هذا قد تفلت على النبى صلى الله عليه وسلم وتعرض له وهو فى الصلاة وأَراد أن يقطع عليه الصلاة؟ ومعلوم أن حال الرسول أكمل وأقوى.

والجواب ما ذكرناه: أَن شيطان عمر كان يفر منه فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه، وأَما الشيطان الذى تعرض للنبى صلى الله عليه وسلم فقد أخذه وأسره وجعله فى قبضته كالأَسير، وأَين من يهرب منه عدوه فلا يظفر به إلى من يظفر بعدوه فيجعله فى أَسره وتحت يده وقبضته، فهذا ونحوه مما احتج به أَرباب هذا القول.

واحتج أَرباب القول الثانى- وهم الذين رجحوا من لا منازعة فى طباعه ولا هوى له يغالبه- بأَن قالوا: كيف تستوى النفس المطمئنة إلى ربها العاكفة على حبه التى لا منازعة فيها أصلاً ولا داعية تدعوها إلى الإعراض عنه، والنفس المشغولة بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟ قالوا: وأيضاً ففى الزمن الذى يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحب النفس المطمئنة قد قطع مراحل من سيره وفاز بقرب فات صاحب المحاربة والمنازعة.

قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين فى طريق فطلع على أحدهما قاطع اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكن من سيره، والآخر سائر لم يعرض له قاطع، بل هو على جادة سيره، فإِن هذا يقطع من المسافة أَكثر مما يقطع الأَول ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه. قالوا: وأيضاً فإن للقلب قوة يسير

<<  <   >  >>